تفسير السعدي
تفسير الآية رقم 46 من سورة المؤمنون
تفسير الآيتين 45 و46 :ـ
مر عليَّ منذ زمان طويل كلام لبعض العلماء لا يحضرني الآن اسمه، وهو أنه بعد بعث موسى ونزول التوراة، رفع الله العذاب عن الأمم، أي: عذاب الاستئصال، وشرع للمكذبين المعاندين الجهاد، ولم أدر من أين أخذه، فلما تدبرت هذه الآيات، مع الآيات التي في سورة القصص، تبين لي وجهه، أما هذه الآيات، فلأن الله ذكر الأمم المهلكة المتتابعة على الهلاك، ثم أخبر أنه أرسل موسى بعدهم، وأنزل عليه التوراة فيها الهداية للناس، ولا يرد على هذا، إهلاك فرعون، فإنه قبل نزول التوراة، وأما الآيات التي في سورة القصص، فهي صريحة جدا، فإنه لما ذكر هلاك فرعون قال: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } فهذا صريح أنه آتاه الكتاب بعد هلاك الأمم الباغية، وأخبر أنه أنزله بصائر للناس وهدى ورحمة، ولعل من هذا، ما ذكر الله في سورة " يونس " من قولة: { ثم بعثنا من بعده } أي: من بعد نوح { رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين* ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون } الآيات والله أعلم.
فقوله: { ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى } بن عمران، كليم الرحمن { وَأَخَاهُ هَارُونَ } حين سأل ربه أن يشركه في أمره فأجاب سؤله.
{ بِآيَاتِنَا } الدالة على صدقهما وصحة ما جاءا به { وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ } أي: حجة بينة، من قوتها، أن تقهر القلوب، وتتسلط عليها لقوتها فتنقاد لها قلوب المؤمنين، وتقوم الحجة البينة على المعاندين، وهذا كقوله { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } ولهذا رئيس المعاندين عرف الحق وعاند { فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ } أي: بتلك الآيات البينات { فَقَالَ له فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا } فـ { قال } موسى { قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا } وقال تعالى: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } وقال هنا: { ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ* إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } كـ " هامان " وغيره من رؤسائهم، { فَاسْتَكْبَرُوا } أي: تكبروا عن الإيمان بالله، واستكبروا على أنبيائه، { وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ } أي: وصفهم العلو، والقهر، والفساد في الأرض، فلهذا صدر منهم الاستكبار، ذلك غير مستكثر منهم.