تفسير الطبري
تفسير الآية رقم 1 من سورة الفاتحة
القول في تأويل الاستعاذة
تأويل قوله : ( أعوذ ) .
قال أبو جعفر : والاستعاذة : الاستجارة . وتأويل قول القائل : ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) أستجير بالله - دون غيره من سائر خلقه - من الشيطان أن يضرني في ديني ، أو يصدني عن حق يلزمني لربي .
تأويل قوله : ( من الشيطان )
قال أبو جعفر : والشيطان ، في كلام العرب : كل متمرد من الجن والإنس والدواب وكل شيء . وكذلك قال ربنا جل ثناؤه : ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن ) [ سورة الأنعام : 112 ] ، فجعل من الإنس شياطين ، مثل الذي جعل من الجن .
وقال عمر بن الخطاب رحمة الله عليه ، وركب برذونا فجعل يتبختر به ، فجعل يضربه فلا يزداد إلا تبخترا ، فنزل عنه ، وقال : ما حملتموني إلا على شيطان! ما نزلت عنه حتى أنكرت نفسي .
136 - حدثنا بذلك يونس بن عبد الأعلى ، قال : أنبأنا ابن وهب ، قال : أخبرني هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن عمر .
قال أبو جعفر : وإنما سمي المتمرد من كل شيء شيطانا ، لمفارقة أخلاقه وأفعاله أخلاق سائر جنسه وأفعاله ، وبعده من الخير . وقد قيل : إنه أخذ من [ ص: 112 ] قول القائل : شطنت داري من دارك - يريد بذلك : بعدت . ومن ذلك قول نابغة بني ذبيان :
نأت بسعاد عنك نوى شطون فبانت والفؤاد بها رهين
والنوى : الوجه الذي نوته وقصدته . والشطون : البعيد . فكأن الشيطان - على هذا التأويل - فيعال من شطن . ومما يدل على أن ذلك كذلك ، قول أمية بن أبي الصلت :
أيما شاطن عصاه عكاه ثم يلقى في السجن والأكبال
ولو كان فعلان ، من شاط يشيط ، لقال : أيما شائط ، ولكنه قال : أيما شاطن ، لأنه من "شطن يشطن ، فهو شاطن" .
تأويل قوله : ( الرجيم ) .
وأما الرجيم فهو : فعيل بمعنى مفعول ، كقول القائل : كف خضيب ، ولحية دهين ، ورجل لعين ، يريد بذلك : مخضوبة ومدهونة وملعون . وتأويل الرجيم : الملعون المشتوم . وكل مشتوم بقول رديء أو سب فهو مرجوم . وأصل الرجم الرمي ، بقول كان أو بفعل . ومن الرجم بالقول قول أبي إبراهيم لإبراهيم صلوات الله عليه : ( لئن لم تنته لأرجمنك ) [ سورة مريم : 46 ] .
وقد يجوز أن يكون قيل للشيطان رجيم ، لأن الله جل ثناؤه طرده من سماواته ، ورجمه بالشهب الثواقب [ ص: 113 ]
وقد روي عن ابن عباس ، أن أول ما نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم علمه الاستعاذة .
137 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن عبد الله بن عباس ، قال : أول ما نزل جبريل على محمد قال : "يا محمد استعذ ، قل : أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم " ، ثم قال : قل : "بسم الله الرحمن الرحيم " ، ثم قال : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) [ العلق : 1 ] . قال عبد الله : وهي أول سورة أنزلها الله على محمد بلسان جبريل .
فأمره أن يتعوذ بالله دون خلقه .
القول في تأويل بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله : ( بسم )
قال أبو جعفر : إن الله تعالى ذكره وتقدست أسماؤه أدب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بتعليمه تقديم ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله ، ، وتقدم إليه في وصفه بها قبل جميع مهماته ، وجعل ما أدبه به من ذلك وعلمه إياه ، منه لجميع خلقه سنة يستنون بها ، وسبيلا يتبعونه عليها ، فبه افتتاح أوائل منطقهم ، وصدور رسائلهم وكتبهم وحاجاتهم ، حتى أغنت دلالة ما ظهر من قول القائل : "بسم الله " ، على ما بطن من مراده الذي هو محذوف .
وذلك أن الباء من "بسم الله " مقتضية فعلا يكون لها جالبا ، ولا فعل معها ظاهر ، فأغنت سامع القائل "بسم الله " معرفته بمراد قائله ، عن إظهار قائل ذلك مراده قولا إذ كان كل ناطق به عند افتتاحه أمرا ، قد أحضر منطقه به - إما معه ، وإما قبله بلا فصل - ما قد أغنى سامعه عن دلالة شاهدة على الذي من أجله افتتح قيله به . فصار استغناء سامع ذلك منه عن إظهار ما حذف منه ، نظير استغنائه - إذا سمع قائلا قيل له : ما أكلت اليوم ؟ فقال : "طعاما " - عن أن يكرر المسئول مع قوله "طعاما " ، أكلت ، لما قد ظهر لديه من الدلالة على أن ذلك معناه ، بتقدم مسألة السائل إياه عما أكل . فمعقول إذا أن قول [ ص: 115 ] القائل إذا قال : "بسم الله الرحمن الرحيم " ثم افتتح تاليا سورة ، أن إتباعه "بسم الله الرحمن الرحيم " تلاوة السورة ، ينبئ عن معنى قوله : "بسم الله الرحمن الرحيم " ومفهوم به أنه مريد بذلك : أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم . وكذلك قوله : "بسم الله " عند نهوضه للقيام أو عند قعوده وسائر أفعاله ، ينبئ عن معنى مراده بقوله "بسم الله " ، وأنه أراد بقيله "بسم الله " ، أقوم باسم الله ، وأقعد باسم الله . وكذلك سائر الأفعال .
وهذا الذي قلنا في تأويل ذلك ، هو معنى قول ابن عباس الذي : -
138 - حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن عبد الله بن عباس ، قال : إن أول ما نزل به جبريل على محمد ، قال : "يا محمد ، قل : أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم " ثم قال : "قل بسم الله الرحمن الرحيم " . قال : قال له جبريل : قل بسم الله يا محمد ، يقول : اقرأ بذكر الله ربك ، وقم واقعد بذكر الله .
قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : فإن كان تأويل قوله "بسم الله " ما وصفت ، والجالب الباء في "بسم الله " ما ذكرت ، فكيف قيل "بسم الله " ، بمعنى أقرأ باسم الله " ، أو أقوم أو أقعد باسم الله ؟ وقد علمت أن كل قارئ كتاب الله ، فبعون الله وتوفيقه قراءته ، وأن كل قائم أو قاعد أو فاعل فعلا فبالله قيامه وقعوده وفعله . وهلا - إذ كان ذلك كذلك - قيل " بالله الرحمن الرحيم " ولم يقل "بسم الله " ؟ فإن قول القائل : أقوم وأقعد بالله الرحمن الرحيم ، أو أقرأ بالله - أوضح معنى لسامعه من قوله "بسم الله " ، إذ كان قوله أقوم "أقوم أو أقعد باسم الله " ، يوهم سامعه أن قيامه وقعوده بمعنى غير الله .
قيل له ، وبالله التوفيق : إن المقصود إليه من معنى ذلك غير ما توهمته في نفسك . وإنما معنى قوله "باسم الله " : أبدأ بتسمية الله وذكره قبل كل شيء ، [ ص: 116 ] أو أقرأ بتسميتي الله ، أو أقوم وأقعد بتسميتي الله وذكره - لا أنه يعني بقيله "بسم الله " : أقوم بالله ، أو أقرأ بالله ، فيكون قول القائل : أقرأ بالله ، أو أقوم أو أقعد بالله - أولى بوجه الصواب في ذلك من قوله "بسم الله " .
فإن قال : فإن كان الأمر في ذلك على ما وصفت ، فكيف قيل : "بسم الله " وقد علمت أن الاسم اسم ، وأن التسمية مصدر من قولك سميت ؟
قيل : إن العرب قد تخرج المصادر مبهمة على أسماء مختلفة ، كقولهم : أكرمت فلانا كرامة ، وإنما بناء مصدر "أفعلت " - إذا أخرج على فعله - "الإفعال " . وكقولهم : أهنت فلانا هوانا ، وكلمته كلاما . وبناء مصدر : "فعلت " التفعيل . ومن ذلك قول الشاعر :
أكفرا بعد رد الموت عني وبعد عطائك المائة الرتاعا
يريد : إعطائك . ومنه قول الآخر :
وإن كان هذا البخل منك سجية لقد كنت في طولي رجاءك أشعبا
يريد : في إطالتي رجاءك . ومنه قول الآخر :
أظليم إن مصابكم رجلا أهدى السلام تحية ظلم
يريد : إصابتكم . والشواهد في هذا المعنى تكثر ، وفيما ذكرنا كفاية ، لمن وفق لفهمه . [ ص: 117 ]
فإذ كان الأمر - على ما وصفنا ، من إخراج العرب مصادر الأفعال على غير بناء أفعالها - كثيرا ، وكان تصديرها إياها على مخارج الأسماء موجودا فاشيا ، فبين بذلك صواب ما قلنا من التأويل في قول القائل "بسم الله " ، أن معناه في ذلك عند ابتدائه في فعل أو قول : أبدأ بتسمية الله ، قبل فعلي ، أو قبل قولي .
وكذلك معنى قول القائل عند ابتدائه بتلاوة القرآن : "بسم الله الرحمن الرحيم " ، إنما معناه : أقرأ مبتدئا بتسمية الله ، أو أبتدئ قراءتي بتسمية الله . فجعل "الاسم " مكان التسمية ، كما جعل الكلام مكان التكليم ، والعطاء مكان الإعطاء .
وبمثل الذي قلنا من التأويل في ذلك ، روي الخبر عن عبد الله بن عباس .
139 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن عبد الله بن عباس ، قال : أول ما نزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم قال : "يا محمد ، قل : أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم " ، ثم قال : "قل : بسم الله الرحمن الرحيم " .
قال ابن عباس : "بسم الله " ، يقول له جبريل : يا محمد ، اقرأ بذكر الله ربك ، وقم واقعد بذكر الله .
وهذا التأويل من ابن عباس ينبئ عن صحة ما قلنا - من أنه يراد بقول القائل مفتتحا قراءته : "بسم الله الرحمن الرحيم " : أقرأ بتسمية الله وذكره ، وأفتتح القراءة بتسمية الله ، بأسمائه الحسنى وصفاته العلى - ويوضح فساد قول من زعم أن معنى ذلك من قائله : بالله الرحمن الرحيم أول كل شيء ، مع أن العباد [ ص: 118 ] إنما أمروا أن يبتدئوا عند فواتح أمورهم بتسمية الله ، لا بالخبر عن عظمته وصفاته ، كالذي أمروا به من التسمية على الذبائح والصيد ، وعند المطعم والمشرب ، وسائر أفعالهم . وكذلك الذي أمروا به من تسميته عند افتتاح تلاوة تنزيل الله ، وصدور رسائلهم وكتبهم .
ولا خلاف بين الجميع من علماء الأمة ، أن قائلا لو قال عند تذكيته بعض بهائم الأنعام "بالله " ، ولم يقل "بسم الله " ، أنه مخالف - بتركه قيل : "بسم الله " ما سن له عند التذكية من القول . وقد علم بذلك أنه لم يرد بقوله "بسم الله " "بالله " ، كما قال الزاعم أن اسم الله في قول الله : "بسم الله الرحمن الرحيم " هو الله . لأن ذلك لو كان كما زعم ، لوجب أن يكون القائل عند تذكيته ذبيحته "بالله " ، قائلا ما سن له من القول على الذبيحة . وفي إجماع الجميع على أن قائل ذلك تارك ما سن له من القول على ذبيحته - إذ لم يقل "بسم الله " - دليل واضح على فساد ما ادعى من التأويل في قول القائل : "بسم الله " ، أنه مراد به "بالله " ، وأن اسم الله هو الله .
وليس هذا الموضع من مواضع الإكثار في الإبانة عن الاسم : أهو المسمى ، أم غيره ، أم هو صفة له ؟ فنطيل الكتاب به ، وإنما هذا موضع من مواضع الإبانة عن الاسم المضاف إلى الله : أهو اسم ، أم مصدر بمعنى التسمية ؟ [ ص: 119 ] فإن قال قائل : فما أنت قائل في بيت لبيد بن ربيعة :
إلى الحول ، ثم اسم السلام عليكما ، ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
فقد تأوله مقدم في العلم بلغة العرب ، أنه معني به : ثم السلام عليكما ، وأن اسم السلام هو السلام ؟
قيل له : لو جاز ذلك وصح تأويله فيه على ما تأول ، لجاز أن يقال : رأيت اسم زيد ، وأكلت اسم الطعام ، وشربت اسم الشراب; وفي إجماع جميع العرب على إحالة ذلك ما ينبئ عن فساد تأويل من تأول قول لبيد : "ثم اسم السلام [ ص: 120 ] عليكما " ، أنه أراد : ثم السلام عليكما ، وادعائه أن إدخال الاسم في ذلك وإضافته إلى السلام إنما جاز ، إذ كان اسم المسمى هو المسمى بعينه .
ويسأل القائلون قول من حكينا قوله هذا ، فيقال لهم : أتستجيزون في العربية أن يقال : "أكلت اسم العسل " ، يعني بذلك : أكلت العسل ، كما جاز عندكم : اسم السلام عليك ، وأنتم تريدون : السلام عليك ؟
فإن قالوا : نعم ! خرجوا من لسان العرب ، وأجازوا في لغتها ما تخطئه جميع العرب في لغتها . وإن قالوا : لا ؛ سئلوا الفرق بينهما . فلن يقولوا في أحدهما قولا إلا ألزموا في الآخر مثله .
فإن قال لنا قائل : فما معنى قول لبيد هذا عندك ؟
قيل له : يحتمل ذلك وجهين ، كلاهما غير الذي قاله من حكينا قوله .
أحدهما : أن "السلام " اسم من أسماء الله ، فجائز أن يكون لبيد عنى بقوله : "ثم اسم السلام عليكما " ، ثم الزما اسم الله وذكره بعد ذلك ، ودعا ذكري والبكاء علي; على وجه الإغراء . فرفع الاسم ، إذ أخر الحرف الذي يأتي بمعنى الإغراء . وقد تفعل العرب ذلك ، إذا أخرت الإغراء وقدمت المغرى به ، وإن كانت قد تنصب به وهو مؤخر . ومن ذلك قول الشاعر :
يا أيها المائح دلوي دونكا! إني رأيت الناس يحمدونكا!
فأغرى ب "دونك " ، وهي مؤخرة ، وإنما معناه : دونك دلوي . فذلك قول لبيد :
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
يعني : عليكما اسم السلام ، أي : الزما ذكر الله ودعا ذكري والوجد بي ، لأن من بكى حولا على امرئ ميت فقد اعتذر . فهذا أحد وجهيه . [ ص: 121 ]
والوجه الآخر منهما : ثم تسميتي الله عليكما ، كما يقول القائل للشيء يراه فيعجبه : "اسم الله عليك " يعوذه بذلك من السوء ، فكأنه قال : ثم اسم الله عليكما من السوء ، وكأن الوجه الأول أشبه المعنيين بقول لبيد .
ويقال لمن وجه بيت لبيد هذا إلى أن معناه : ثم السلام عليكما ، أترى ما قلنا - من هذين الوجهين - جائزا ، أو أحدهما ، أو غير ما قلت فيه ؟
فإن قال : لا ! أبان مقداره من العلم بتصاريف وجوه كلام العرب ، وأغنى خصمه عن مناظرته .
وإن قال : بلى !
قيل له : فما برهانك على صحة ما ادعيت من التأويل أنه الصواب ، دون الذي ذكرت أنه محتمله - من الوجه الذي يلزمنا تسليمه لك ؟ ولا سبيل إلى ذلك .
وأما الخبر الذي : -
140 - حدثنا به إسماعيل بن الفضل ، قال : حدثنا إبراهيم بن العلاء بن الضحاك وهو يلقب بزبريق قال : حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن إسماعيل بن يحيى ، عن ابن أبي مليكة ، عمن حدثه ، عن ابن مسعود - ومسعر بن كدام ، عن عطية ، عن أبي سعيد - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن عيسى ابن مريم أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه ، فقال له المعلم : اكتب "بسم " فقال له عيسى : وما "بسم " ؟ فقال له المعلم : ما أدري ! فقال عيسى : الباء بهاء الله ، والسين : سناؤه ، والميم : مملكته . [ ص: 122 ]
فأخشى أن يكون غلطا من المحدث ، وأن يكون أراد ب س م ، على سبيل ما يعلم المبتدئ من الصبيان في الكتاب حروف أبي جاد ، فغلط بذلك ، فوصله ، فقال : "بسم " ، لأنه لا معنى لهذا التأويل إذا تلي "بسم الله الرحمن الرحيم " ، على ما يتلوه القارئ في كتاب الله ، لاستحالة معناه على المفهوم به عند جميع العرب وأهل لسانها ، إذا حمل تأويله على ذلك .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( الله ) .
قال أبو جعفر : وأما تأويل قول الله تعالى ذكره "الله " ، فإنه على معنى ما روي لنا عن عبد الله بن عباس - : هو الذي يألهه كل شيء ، ويعبده كل خلق . [ ص: 123 ]
141 - وذلك أن أبا كريب حدثنا ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن عبد الله بن عباس ، قال : "الله " ذو الألوهية والمعبودية على خلقه أجمعين .
فإن قال لنا قائل : فهل لذلك في "فعل ويفعل " أصل كان منه بناء هذا الاسم ؟
قيل : أما سماعا من العرب فلا ولكن استدلالا .
فإن قال : وما دل على أن الألوهية هي العبادة ، وأن الإله هو المعبود ، وأن له أصلا في "فعل ويفعل " .
قيل : لا تمانع بين العرب في الحكم لقول القائل - يصف رجلا بعبادة ، وبطلب ما عند الله جل ذكره : "تأله فلان " - بالصحة ولا خلاف . ومن ذلك قول رؤبة بن العجاج :
لله در الغانيات المده سبحن واسترجعن من تألهي
يعني : من تعبدي وطلبي الله بعملي .
ولا شك أن "التأله " ، التفعل من : "أله يأله " ، وأن معنى "أله " - إذا نطق به : - عبد الله . وقد جاء منه مصدر يدل على أن العرب قد نطقت منه ب "فعل يفعل " بغير زيادة .
142 - وذلك ما حدثنا به سفيان بن وكيع ، قال حدثنا أبي ، عن نافع بن عمر ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس : أنه قرأ " ويذرك وآلهتك " سورة الأعراف : 127 قال : عبادتك ، ويقال : إنه كان يعبد ولا يعبد . [ ص: 124 ]
143 - حدثنا سفيان ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن محمد بن عمرو بن الحسن ، عن ابن عباس : ( ويذرك وآلهتك ) ، قال : إنما كان فرعون يعبد ولا يعبد
وكذلك كان عبد الله يقرؤها ومجاهد .
144 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : أخبرني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : قوله " ويذرك وآلهتك " قال : وعبادتك ولا شك أن الإلاهة - على ما فسره ابن عباس ومجاهد - مصدر من قول القائل : أله الله فلان إلاهة ، كما يقال : عبد الله فلان عبادة ، وعبر الرؤيا عبارة . فقد بين قول ابن عباس ومجاهد هذا : أن "أله " عبد ، وأن "الإلاهة " مصدره .
فإن قال : فإن كان جائزا أن يقال لمن عبد الله : ألهه - على تأويل قول ابن عباس ومجاهد - فكيف الواجب في ذلك أن يقال ، إذا أراد المخبر الخبر عن استيجاب الله ذلك على عبده ؟ [ ص: 125 ]
قيل : أما الرواية فلا رواية فيه عندنا ، ولكن الواجب - على قياس ما جاء به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي : -
145 - حدثنا به إسماعيل بن الفضل ، حدثنا إبراهيم بن العلاء ، قال : حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن إسماعيل بن يحيى ، عن ابن أبي مليكة ، عمن حدثه عن ابن مسعود - ومسعر بن كدام ، عن عطية العوفي ، عن أبي سعيد - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن عيسى أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه فقال له المعلم اكتب "الله " فقال له عيسى : "أتدري ما الله ؟ الله إله الآلهة " .
- أن يقال ، الله جل جلاله أله العبد ، والعبد ألهه . وأن يكون قول القائل "الله " - من كلام العرب أصله "الإله " .
فإن قال : وكيف يجوز أن يكون ذلك كذلك ، مع اختلاف لفظيهما ؟
قيل : كما جاز أن يكون قوله : ( لكنا هو الله ربي ) [ سورة الكهف : 38 ] أصله : لكن أنا ، هو الله ربي ، كما قال الشاعر :
وترمينني بالطرف ، أي أنت مذنب وتقلينني ، لكن إياك لا أقلي
يريد : لكن أنا إياك لا أقلي ، فحذف الهمزة من "أنا " فالتقت نون "أنا " "ونون "لكن " وهي ساكنة ، فأدغمت في نون "أنا " فصارتا نونا مشددة . فكذلك "الله " أصله "الإله " ، أسقطت الهمزة التي هي فاء الاسم ، فالتقت اللام التي هي عين الاسم ، واللام الزائدة التي دخلت مع الألف الزائدة وهي ساكنة ، فأدغمت في [ ص: 126 ] الأخرى التي هي عين الاسم ، فصارتا في اللفظ لاما واحدة مشددة ، كما وصفنا من قول الله ( لكنا هو الله ربي ) .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( الرحمن الرحيم ) .
قال أبو جعفر : وأما " الرحمن " ، فهو فعلان ، من رحم ، و "الرحيم " فعيل منه . والعرب كثيرا ما تبني الأسماء من "فعل يفعل " على "فعلان " ، كقولهم من غضب : غضبان ، ومن سكر : سكران ، ومن عطش : عطشان . فكذلك قولهم "رحمن " من رحم ، لأن "فعل " منه : رحم يرحم . وقيل "رحيم " ، وإن كانت عين "فعل " منها مكسورة ، لأنه مدح . ومن شأن العرب أن يحملوا أبنية الأسماء - إذا كان فيها مدح أو ذم - على "فعيل " ، وإن كانت عين "فعل " منها مكسورة أو مفتوحة ، كما قالوا من "علم " عالم وعليم ، ومن "قدر " قادر وقدير . وليس ذلك منها بناء على أفعالها ، لأن البناء من "فعل يفعل " و "فعل يفعل " فاعل . فلو كان "الرحمن والرحيم " خارجين على بناء أفعالهما لكانت صورتهما "الراحم " .
فإن قال قائل : فإذا كان الرحمن والرحيم اسمين مشتقين من الرحمة ، فما وجه تكرير ذلك ، وأحدهما مؤد عن معنى الآخر ؟
قيل له : ليس الأمر في ذلك على ما ظننت ، بل لكل كلمة منهما معنى لا تؤدي الأخرى منهما عنها .
فإن قال : وما المعنى الذي انفردت به كل واحدة منهما ، فصارت إحداهما غير مؤدية المعنى عن الأخرى ؟
قيل : أما من جهة العربية ، فلا تمانع بين أهل المعرفة بلغات العرب ، أن قول القائل : "الرحمن " - عن أبنية الأسماء [ ص: 127 ] من "فعل يفعل " - أشد عدولا من قوله "الرحيم " . ولا خلاف مع ذلك بينهم ، أن كل اسم كان له أصل في "فعل يفعل " - ثم كان عن أصله من "فعل يفعل " أشد عدولا - أن الموصوف به مفضل على الموصوف بالاسم المبني على أصله من "فعل يفعل " ، إذا كانت التسمية به مدحا أو ذما . فهذا ما في قول القائل "الرحمن " ، من زيادة المعنى على قوله "الرحيم " في اللغة .
وأما من جهة الأثر والخبر ، ففيه بين أهل التأويل اختلاف : -
146 - فحدثني السري بن يحيى التميمي ، قال : حدثنا عثمان بن زفر ، قال : سمعت العرزمي يقول : "الرحمن الرحيم " ، قال : الرحمن بجميع الخلق ، "الرحيم" قال : بالمؤمنين .
147 - حدثنا إسماعيل بن الفضل ، قال : حدثنا إبراهيم بن العلاء ، قال : حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن إسماعيل بن يحيى ، عن ابن أبي مليكة ، عمن حدثه ، عن ابن مسعود - ومسعر بن كدام ، عن عطية العوفي ، عن أبي سعيد - يعني الخدري - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن عيسى ابن مريم قال : الرحمن رحمن الآخرة والدنيا ، والرحيم رحيم الآخرة " .
فهذان الخبران قد أنبآ عن فرق ما بين تسمية الله جل ثناؤه باسمه الذي هو "رحمن " ، وتسميته باسمه الذي هو "رحيم " ، واختلاف معنى الكلمتين - وإن اختلفا في معنى ذلك الفرق ، فدل أحدهما على أن ذلك في الدنيا ، ودل الآخر على أنه في الآخرة .
فإن قال : فأي هذين التأويلين أولى عندك بالصحة ؟ [ ص: 128 ]
قيل : لجميعهما عندنا في الصحة مخرج ، فلا وجه لقول قائل : أيهما أولى بالصحة ؟ وذلك أن المعنى الذي في تسمية الله بالرحمن ، دون الذي في تسميته بالرحيم : هو أنه بالتسمية بالرحمن موصوف بعموم الرحمة جميع خلقه ، وأنه بالتسمية بالرحيم موصوف بخصوص الرحمة بعض خلقه ، إما في كل الأحوال ، وإما في بعض الأحوال . فلا شك - إذا كان ذلك كذلك - أن ذلك الخصوص الذي في وصفه بالرحيم لا يستحيل عن معناه ، في الدنيا كان ذلك أو في الآخرة ، أو فيهما جميعا .
فإذا كان صحيحا ما قلنا من ذلك - وكان الله جل ثناؤه قد خص عباده المؤمنين في عاجل الدنيا بما لطف بهم من توفيقه إياهم لطاعته ، والإيمان به وبرسله ، واتباع أمره واجتناب معاصيه ، مما خذل عنه من أشرك به ، وكفر وخالف ما أمره به ، وركب معاصيه; وكان مع ذلك قد جعل ، جل ثناؤه ، ما أعد في آجل الآخرة في جناته من النعيم المقيم والفوز المبين ، لمن آمن به ، وصدق رسله ، وعمل بطاعته ، خالصا ، دون من أشرك وكفر به - كان بينا أن الله قد خص المؤمنين من رحمته في الدنيا والآخرة ، مع ما قد عمهم به والكفار في الدنيا من الإفضال والإحسان إلى جميعهم ، في البسط في الرزق ، وتسخير السحاب بالغيث ، وإخراج النبات من الأرض ، وصحة الأجسام والعقول ، وسائر النعم التي لا تحصى ، التي يشترك فيها المؤمنون والكافرون .
فربنا جل ثناؤه رحمن جميع خلقه في الدنيا والآخرة ، ورحيم المؤمنين خاصة في الدنيا والآخرة . فأما الذي عم جميعهم به في الدنيا من رحمته فكان رحمانا لهم به ، فما ذكرنا مع نظائره التي لا سبيل إلى إحصائها لأحد من خلقه ، كما قال جل ثناؤه : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) [ سورة إبراهيم : 34 ، وسورة النحل : 18 ] .
وأما في الآخرة ، فالذي عم جميعهم به فيها من رحمته ، فكان لهم رحمانا ، تسويته [ ص: 129 ] بين جميعهم جل ذكره في عدله وقضائه ، فلا يظلم أحدا منهم مثقال ذرة ، وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ، وتوفى كل نفس ما كسبت . فذلك معنى عمومه في الآخرة جميعهم برحمته ، الذي كان به رحمانا في الآخرة .
وأما ما خص به المؤمنين في عاجل الدنيا من رحمته ، الذي كان به رحيما لهم فيها ، كما قال جل ذكره : ( وكان بالمؤمنين رحيما ) [ سورة الأحزاب : 43 ] فما وصفنا من اللطف لهم في دينهم ، فخصهم به ، دون من خذله من أهل الكفر به .
وأما ما خصهم به في الآخرة ، فكان به رحيما لهم دون الكافرين ، فما وصفنا آنفا مما أعد لهم دون غيرهم من النعيم ، والكرامة التي تقصر عنها الأماني .
وأما القول الآخر في تأويله فهو ما : -
148 - حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن عبد الله بن عباس ، قال : الرحمن ، الفعلان من الرحمة ، وهو من كلام العرب . قال : الرحمن الرحيم : الرقيق الرفيق بمن أحب أن يرحمه ، والبعيد الشديد على من أحب أن يعنف عليه . وكذلك أسماؤه كلها .
وهذا التأويل من ابن عباس ، يدل على أن الذي به ربنا رحمن ، هو الذي به رحيم ، وإن كان لقوله "الرحمن " من المعنى ، ما ليس لقوله "الرحيم " . لأنه جعل معنى "الرحمن " بمعنى الرقيق على من رق عليه ، ومعنى "الرحيم " بمعنى الرفيق بمن رفق به .
والقول الذي رويناه في تأويل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكرناه عن العرزمي ، أشبه بتأويله من هذا القول الذي رويناه عن ابن عباس . وإن [ ص: 130 ] كان هذا القول موافقا معناه معنى ذلك ، في أن للرحمن من المعنى ما ليس للرحيم ، وأن للرحيم تأويلا غير تأويل الرحمن .
والقول الثالث في تأويل ذلك ما : -
149 - حدثني به عمران بن بكار الكلاعي ، قال : حدثنا يحيى بن صالح ، قال : حدثنا أبو الأزهر نصر بن عمرو اللخمي من أهل فلسطين ، قال : سمعت عطاء الخراساني يقول : كان الرحمن ، فلما اختزل الرحمن من اسمه كان الرحمن الرحيم .
والذي أراد ، إن شاء الله ، عطاء بقوله هذا : أن الرحمن كان من أسماء الله التي لا يتسمى بها أحد من خلقه ، فلما تسمى به الكذاب مسيلمة - وهو اختزاله إياه ، يعني اقتطاعه من أسمائه لنفسه - أخبر الله جل ثناؤه أن اسمه "الرحمن الرحيم " ليفصل بذلك لعباده اسمه من اسم من قد تسمى بأسمائه ، إذ كان لا يسمى أحد "الرحمن الرحيم " ، فيجمع له هذان الاسمان ، غيره جل ذكره . وإنما يتسمى بعض خلقه إما رحيما ، أو يتسمى رحمن . فأما "رحمن رحيم " ، فلم يجتمعا قط لأحد سواه ، ولا يجمعان لأحد غيره . فكأن معنى قول عطاء هذا : أن الله جل ثناؤه إنما فصل بتكرير الرحيم على الرحمن ، بين اسمه واسم غيره من خلقه ، اختلف معناهما أو اتفقا .
والذي قال عطاء من ذلك غير فاسد المعنى ، بل جائز أن يكون جل ثناؤه خص نفسه بالتسمية بهما معا مجتمعين ، إبانة لها من خلقه ، ليعرف عباده بذكرهما مجموعين أنه المقصود بذكرهما دون من سواه من خلقه ، مع ما في تأويل كل واحد منهما من المعنى الذي ليس في الآخر منهما . [ ص: 131 ]
وقد زعم بعض أهل الغباء أن العرب كانت لا تعرف "الرحمن " ، ولم يكن ذلك في لغتها ولذلك قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم : ( وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا ) [ سورة الفرقان : 60 ] ، إنكارا منهم لهذا الاسم ، كأنه كان محالا عنده أن ينكر أهل الشرك ما كانوا عالمين بصحته ، أو : لا ، وكأنه لم يتل من كتاب الله قول الله ( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه ) - يعني محمدا - ( كما يعرفون أبناءهم ) [ سورة البقرة : 146 ] وهم مع ذلك به مكذبون ، ولنبوته جاحدون! فيعلم بذلك أنهم قد كانوا يدافعون حقيقة ما قد ثبت عندهم صحته ، واستحكمت لديهم معرفته . وقد أنشد لبعض الجاهلية الجهلاء :
ألا ضربت تلك الفتاة هجينها ألا قضب الرحمن ربي يمينها
وقال سلامة بن جندل السعدي :
عجلتم علينا عجلتينا عليكم وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق
[ ص: 132 ]
وقد زعم أيضا بعض من ضعفت معرفته بتأويل أهل التأويل ، وقلت روايته لأقوال السلف من أهل التفسير ، أن "الرحمن " مجازه : ذو الرحمة ، و "الرحيم " مجازه : الراحم ، ثم قال : قد يقدرون اللفظين من لفظ والمعنى واحد ، وذلك لاتساع الكلام عندهم . قال : وقد فعلوا مثل ذلك فقالوا : ندمان ونديم ، ثم استشهد ببيت برج بن مسهر الطائي :
وندمان يزيد الكأس طيبا ، سقيت وقد تغورت النجوم
واستشهد بأبيات نظائره في النديم والندمان ، ففرق بين معنى الرحمن والرحيم في التأويل لقوله : الرحمن ذو الرحمة ، والرحيم الراحم ، وإن كان قد ترك بيان تأويل معنييهما على صحته . ثم مثل ذلك باللفظين يأتيان بمعنى واحد ، فعاد إلى ما قد جعله بمعنيين ، فجعله مثال ما هو بمعنى واحد مع اختلاف الألفاظ .
ولا شك أن ذا الرحمة هو الذي ثبت أن له الرحمة ، وصح أنها له صفة; وأن الراحم هو الموصوف بأنه سيرحم ، أو قد رحم فانقضى ذلك منه ، أو هو فيه .
ولا دلالة له فيه حينئذ أن الرحمة له صفة ، كالدلالة على أنها له صفة ، إذا وصف بأنه ذو الرحمة . فأين معنى "الرحمن الرحيم " على تأويله ، من معنى الكلمتين تأتيان مقدرتين من لفظ واحد باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني ؟ ولكن القول إذا كان غير أصل معتمد عليه ، كان واضحا عواره .
وإن قال لنا قائل : ولم قدم اسم الله الذي هو "الله " ، على اسمه الذي هو "الرحمن " ، واسمه الذي هو "الرحمن " ، على اسمه الذي هو "الرحيم " ؟
قيل : لأن من شأن العرب ، إذا أرادوا الخبر عن مخبر عنه ، أن يقدموا اسمه ، ثم يتبعوه صفاته ونعوته . وهذا هو الواجب في الحكم : أن يكون الاسم مقدما قبل نعته وصفته ، ليعلم السامع الخبر ، عمن الخبر . فإذا كان ذلك كذلك - [ ص: 133 ] وكان لله جل ذكره أسماء قد حرم على خلقه أن يتسموا بها ، خص بها نفسه دونهم ، وذلك مثل "الله " و "الرحمن " و "الخالق "; وأسماء أباح لهم أن يسمي بعضهم بعضا بها ، وذلك : كالرحيم والسميع والبصير والكريم ، وما أشبه ذلك من الأسماء - كان الواجب أن تقدم أسماؤه التي هي له خاصة دون جميع خلقه ، ليعرف السامع ذلك من توجه إليه الحمد والتمجيد ، ثم يتبع ذلك بأسمائه التي قد تسمى بها غيره ، بعد علم المخاطب أو السامع من توجه إليه ما يتلو ذلك من المعاني . فبدأ الله جل ذكره باسمه لأن الألوهية ليست لغيره جل ثناؤه من وجه من الوجوه ، لا من جهة التسمي به ، ولا من جهة المعنى . وذلك أنا قد بينا أن معنى "الله " تعالى ذكره المعبود ، ولا معبود غيره جل جلاله ، وأن التسمي به قد حرمه الله جل ثناؤه ، وإن قصد المتسمي به ما يقصد المتسمي بسعيد وهو شقي ، وبحسن وهو قبيح .
أولا ترى أن الله جل جلاله قال في غير آية من كتابه : ( أإله مع الله ) فاستكبر ذلك من المقر به ، وقال تعالى في خصوصه نفسه بالله وبالرحمن : ( قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ) [ سورة الإسراء : 110 ] . ثم ثنى باسمه ، الذي هو الرحمن ، إذ كان قد منع أيضا خلقه التسمي به ، وإن كان من خلقه من قد يستحق تسميته ببعض معانيه . وذلك أنه قد يجوز وصف كثير ممن هو دون الله من خلقه ، ببعض صفات الرحمة . وغير جائز أن يستحق بعض الألوهية أحد دونه . فلذلك جاء الرحمن ثانيا لاسمه الذي هو "الله " .
وأما اسمه الذي هو "الرحيم " فقد ذكرنا أنه مما هو جائز وصف غيره به . والرحمة من صفاته جل ذكره ، فكان - إذ كان الأمر على ما وصفنا - واقعا مواقع نعوت الأسماء اللواتي هن توابعها ، بعد تقدم الأسماء عليها . فهذا وجه تقديم اسم الله [ ص: 133 ] الذي هو "الله " ، على اسمه الذي هو "الرحمن " ، واسمه الذي هو "الرحمن " على اسمه الذي هو "الرحيم " .
وقد كان الحسن البصري يقول في "الرحمن " مثل ما قلنا ، أنه من أسماء الله التي منع التسمي بها العباد .
150 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا حماد بن مسعدة ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : "الرحمن " اسم ممنوع .
مع أن في إجماع الأمة من منع التسمي به جميع الناس ، ما يغني عن الاستشهاد على صحة ما قلنا في ذلك بقول الحسن وغيره