تفسير الطبري
تفسير الآية رقم 51 من سورة الإسراء
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله ( أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ) فقال بعضهم: عُنِي به الموت، وأريد به: أو كونوا الموت، فإنكم إن كنتموه أمتُّكم ثم بعثتكم بعد ذلك يوم البعث.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن عطية، عن ابن عمر ( أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ) قال: الموت، قال: لو كنتم موتى لأحييتكم.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال : ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ) يعني الموت، يقول: إن كنتم الموت أحييتكم.
حدثني محمد بن عبيد المحاربي، قال: ثنا أبو مالك الجنبي، قال: ثنا ابن أبي خالد، عن أبي صالح في قوله ( أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ) قال: الموت.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا سليمان أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله ( أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ) قال: الموت.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال سعيد بن جبير، في قوله ( أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ) كونوا الموت إن استطعتم، فإن الموت سيموت؛ قال: وليس شيء أكبر في نفس ابن آدم من الموت.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: بلغني، عن سعيد بن جبير، قال: هو الموت.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن عبد الله بن عمر، أنه كان يقول: " يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح حتى يُجعل بين الجنة والنار، فينادي مناد يُسمع أهلَ الجنة وأهل النار، فيقول: هذا الموت قد جئنا به ونحن مهلكوه، فايقنوا يا أهل الجنة وأهل النار أن الموت قد هلك ".
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ) يعني الموت، يقول: لو كنتم الموت لأمتكم.
وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: إن الله يجيء بالموت يوم القيامة، وقد صار أهل الجنة وأهل النار إلى منازلهم، كأنه كبش أملح، فيقف بين الجنة والنار، فينادي أهل الجنة وأهل النار هذا الموت، ونحن ذابحوه، فأيقنوا بالخلود.
وقال آخرون: عنى بذلك السماء والأرض والجبال.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ) قال: السماء والأرض والجبال.
وقال آخرون: بل أريد بذلك: كونوا ما شئتم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ) قال: ما شئتم فكونوا، فسيعيدكم الله كما كنتم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ) قال: من خلق الله، فإن الله يميتكم ثم يبعثكم يوم القيامة خلقا جديدا.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره قال ( أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ )، وجائز أن يكون عنى به الموت، لأنه عظيم في صدور بني آدم؛ وجائز أن يكون أراد به السماء والأرض؛ وجائز أن يكون أراد به غير ذلك، ولا بيان في ذلك أبين مما بين جلّ ثناؤه، وهو كلّ ما كبر في صدور بني آدم من خلقه، لأنه لم يخصص منه شيئا دون شيء.
وأما قوله ( فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا ) فإنه يقول: فسيقول لك يا محمد هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة (مَنْ يُعِيدُنا) خلقا جديدا، إن كنا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدورنا، فقل لهم: يعيدكم ( الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) يقول: يعيدكم كما كنتم قبل أن تصيروا حجارة أو حديدا إنسا أحياء، الذي خلقكم إنسا من غير شيء أوّل مرّة.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) أي خلقكم ( فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ ) يقول: فإنك إذا قلت لهم ذلك، فسيهزُّون إليك رءوسهم برفع وخفض، وكذلك النَّغْض في كلام العرب، إنما هو حركة بارتفاع ثم انخفاض، أو انخفاض ثم ارتفاع، ولذلك سمي الظليم نَغْضا، لأنه إذا عجل المشي ارتفع وانخفض، وحرّك رأسه، كما قال الشاعر.
أسكّ نغْضًا لا يَنِي مُسْتَهْدِجا (1)
ويقال: نَغَضَت سنه: إذا تحرّكت وارتفعت من أصلها؛ ومنه قول الراجز:
ونَغَضَتْ مِنْ هَرِمٍ أسْنانُها (2)
وقول الآخر:
لمَّا رأتْنِي أنْغَضَتْ ليَ الرأسا (3)
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ ) أي يحرّكون رءوسهم تكذيبا واستهزاء.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ ) قال: يحرّكون رءوسهم.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ ) يقول: سيحركونَها إليك استهزاء.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراسانيّ، عن ابن عباس ( فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ ) قال: يحرّكون رءوسهم يستهزءون ويقولون متى هو.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ ) يقول: يهزءون.
وقوله (وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ) يقول جلّ ثناؤه: ويقولون متى البعث، وفي أيّ حال ووقت يعيدنا خلقا جديدا، كما كنا أوّل مرّة، قال الله عزّ وجلّ لنبيه: قل لهم يا محمد إذ قالوا لك: متى هو، متى هذا البعث الذي تعدنا، عسى أن يكون قريبا؟ وإنما معناه: هو قريب، لأن عسى من الله واجب، ولذلك
قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: " بُعِثْتُ أنا والسَّاعَةُ كَهاتَيْن، وأشار بالسَّبابة والوُسطَى "، لأن الله تعالى كان قد أعلمه أنه قريب مجيب.
----------------------
الهوامش :
(1) هذا بيت من مشطور الرجز للعجاج ( ديوانه طبع ليبسج سنة 1903 ص 7 ) وهو السابع من أرجوزة مطولة . وفيه : " أصك " بالصاد ، في موضع " أسك " بالسين . والأسك : صفة من السكك ، وهو الصمم . وقيل : صغر الأذن ولزوقها بالرأس ، وقلة إشرافها . وقيل : قصرها ولصوقها بالحششاء ، يكون ذلك في الآدميين وغيرهم . قال : والنعام كلها سك وكذلك القطا . وأصل السكك الصمم . ا هـ . اللسان . وفي ( اللسان : صكك) : الأصك والمصك : القوي الجسيم الشديد الخلق من الناس والإبل والحمير . وفي ( نغض) : نغض الشيء نغضا : تحرك واضطرب ، وأنغض هو : حركة ا هـ . ولا يني : أي لا يفتر . وفيه أيضا ( هدج ) أورد البيت كرواية الديوان . قال : وهدج الظليم يهدج هدجانا واستهدج ، وهو مشى وسعى وعدو ، كل ذلك إذا كان في ارتعاش . قال العجاج يصف الظليم : " أصك .. إلخ " . ويروى مستهدجا ( بكسر الدال) أي عجلان . وقال ابن الأعرابي : أي مستعجلا ، أي أفزع فر . والبيت شاهد على أن " النغض " في كلام العرب حركة بارتفاع ثم انخفاض أو بالعكس .
(2) البيت من مشطور الرجز ، وهو من شواهد أبي عبيدة في ( مجاز القرآن 1 : 382 ) وعنه أخذه المؤلف . قال أبو عبيدة : " فسينغضون إليك رءوسهم " : مجازه : فسيرفعون ويحركون استهزاء منهم . ويقال : قد نغضت سن فلان : إذا تحركت وارتفعت من أصلها . قال :
ونغضــت مــن هــرم أسـنانها
(3) وهذا البيت أيضا شاهد بمعنى الذي قبله ، وهو من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (1 : 382) جاء بعد الأول على أن أنغض الرأس بمعنى حركه ورفعه استهزاء بمن هو أمامه .