تفسير الطبري

تفسير الآية رقم 171 من سورة البقرة

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
* * *
فقال بعضهم: معنى ذلك: مثل الكافر =في قلة فهمه عن الله ما يُتلى عليه في كتابه، وسُوء قبوله لما يدعى إليه من توحيد الله ويوعظ به= مثلُ البهيمة التي تسمع الصوتَ إذا نُعق بها، ولا تعقلُ ما يقال لها.
* ذكر من قال ذلك:
2450- حدثنا هناد بن السريّ قال، حدثنا أبو الأحوص, عن سماك, عن عكرمة، في قوله: " ومثلُ الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يَسمع إلا دعاء ونداءً" قال، مَثلُ البعير أو مثل الحمار، تدعوه فيسمع الصوت ولا يفقه ما تقول.
2451- حدثني محمد بن عبد الله بن زريع قال، حدثنا يوسف بن خالد السمتي قال، حدثنا نافع بن مالك, عن عكرمة, عن ابن عباس في قوله: " كمثل الذي يَنعق بما لا يَسمع " قال، هو كمثل الشاة ونحو ذلك. (8) .
2452- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: " ومثل الذين كفروا كمثل الذي يَنعِق بما لا يَسمع إلا دعاءً ونداءً"، كمثل البعير والحمار والشاة، إن قلت لبعضها " كُلْ" - لا يعلم ما تقول، غير أنه يسمع صوتك. وكذلك الكافر، إن أمرته بخير أو نهيته عن شر أو وَعظته، لم يعقل ما تقول غير أنه يسمع صوتك.
2453- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: مثل الدابة تنادى فتسمعُ ولا تعقل ما يقال لها. كذلك الكافر، يسمع الصوت ولا يعقل.
2454- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن خصيف, عن مجاهد: " كمثل الذي ينعق بما لا يسمع " قال، مثل الكافر مثل البهيمة تسمع الصوت ولا تعقل.
2455- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: " كمثل الذي ينعِق "، مثلٌ ضربه الله للكافر يسمع ما يقال له ولا يعقل, كمثل البهيمة تسمع النعيقَ ولا تعقل.
2456- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: " ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً"، يقول: مثل الكافر كمثل البعير والشاة، يسمع الصوت ولا يعقل ولا يدري ما عُني به.
2457- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: " كمثل الذي ينعقُ بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً" قال، هو مثل ضربه الله للكافر. يقول: مَثل هذا الكافر مثل هذه البهيمة التي تسمع الصوت ولا تدري ما يقال لها. فكذلك الكافر لا ينتفع بما يقال له.
2458- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قال: هو مَثل الكافر، يسمع الصوت ولا يعقل ما يقال له.
2459- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: سألت عطاء ثم قلت له : يقال: لا تعقل -يعني البهيمة- إلا أنها تسمع دُعاء الداعي حين ينعِقُ بها, فهم كذلك لا يَعقلون وهم يسمعون. فقال: كذلك. قال: وقال مجاهد: " الذي ينعِق "، الراعي" بما لا يسمع " من البهائم.
2460- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: " كمثل الذي ينعق " الراعي" بما لا يسمع " من البهائم.
2461- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو، قال حدثنا أسباط, عن السدي: " كمثل الذي ينعِق بما لا يَسمع إلا دُعاء ونداءً"، لا يعقل ما يقال له إلا أن تُدعي فتأتي، أو ينادَى بها فتذهب. وأما " الذي ينعق "، فهو الراعي الغنم، كما ينعق الراعي بما لا يسمع ما يقال له, إلا أن يُدعى أو ينادى. فكذلك محمد صلى الله عليه وسلم، يدعو من لا يسمع إلا خرير الكلام، يقول الله: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [سورة البقرة: 18]
* * *
قال أبو جعفر: ومعنى قائلي هذا القول - في تأويلهم ما تأوَّلوا، على ما حكيت عنهم -: ومثَلُ وَعْظِ الذين كفروا وواعظهم، كمثل نَعْق الناعق بغنمه ونعيقِه بها. فأضيف " المثل " إلى الذين كفروا, وترك ذكر " الوعظ والواعظ "، لدلالة الكلام على ذلك. كما يقال: " إذا لقيت فلانًا فعظِّمه تعظيمَ السلطان ", يراد به: كما تعظم السلطانَ, وكما قال الشاعر:
فَلَسْــتُ مُسَــلِّمًا مَـا دُمْـتُ حَيًّـا
عَــــلَى زَيْـــدٍ بِتَسْـــلِيمِ الأمِـــير (9)
يراد به: كما يُسلِّم على الأمير.
وقد يحتمل أن يكون المعنى -على هذا التأويل الذي تأوله هؤلاء-: ومثل الذين كفروا في قلة فهمهم عن الله وعن رسوله، كمثل المنعوق به من البهائم، الذي لا يَفقه من الأمر والنهي غير الصوت. وذلك أنه لو قيل له: " اعتلف، أو رِدِ الماء "، لم يدر ما يقال له غير الصوت الذي يسمعه من قائله. فكذلك الكافر, مَثله في قلة فهمه لما يؤمر به وينهى عنه -بسوء تدبُّره إياه وقلة نظره وفكره فيه- مَثلُ هذا المنعوق به فيما أمِر به ونُهِي عنه. فيكون المعنى للمنعوق به، والكلام خارجٌ على الناعق, كما قال نابغة بني ذبيان:
وَقَـدْ خِـفْتُ, حَـتَّى مَـا تَزِيدُ مَخَافَتِي
عَـلَى وَعِــلٍ فِــي ذِي المَطَـارَة عَاقِلِ (10)
والمعنى: حتى مَا تزيدُ مخافة الوعل على مخافتي, وكما قال الآخر: (11)
كَــانَتْ فَرِيضَـةُ مَـا تَقُـولُ, كَمَـا
كَــانَ الزِّنَــاءُ فَرِيضَــةَ الرَّجْـــمِ (12)
والمعنى: كما كان الرجمُ فريضة الزنا، فجعل الزنا فريضة الرجم، لوضوح معنى الكلام عند سامعه، وكما قال الآخر:
إنّ سِـــرَاجًا لَكَـــرِيمٌ مَفْخَــرُه
تَحْـلَى بِــهِ العَيْـنُ إذَا مَـا تَجْـهَرُهْ (13)
والمعنى: يَحلى بالعين، فجعله تحلى به العين. (14) ونظائر ذلك من كلام العرب أكثرُ من أن تحصى، مما تُوجِّهه العرب من خبر ما تخبر عنه إلى ما صاحَبَه، لظهور معنى ذلك عند سامعه, فتقول: " اعرِض الحوضَ على الناقة ", وإنما تعرض الناقة على الحوض, وما أشبه ذلك من كلامها. (15)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ومَثل الذين كفروا في دُعائهم آلهتهم وأوثانهم التي لا تسمع ولا تعقل, كمثل الذي يَنعق بما لا يسمع إلا دُعاءً ونداءً, وذلك الصدى الذي يسمع صوته, ولا يفهم به عنه الناعقُ شيئًا.
فتأويل الكلام على قول قائلي ذلك: ومثل الذين كفروا وآلهتهم -في دعائهم إياها وهي لا تفقه ولا تعقل- كمثل الناعق بما لا يسمعه الناعقُ إلا دعاءً ونداءً, أي: لا يسمع منه الناعق إلا دعاءَه.
* ذكر من قال ذلك:
2462- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " ومَثل الذين كفروا كمثل الذي يَنعِق بما لا يَسمعُ إلا دعاءً ونداءً" قال، الرجل الذي يصيح في جَوف الجبال فيجيبه فيها صوت يُراجعه يقال له " الصَّدى ". فمثل آلهة هؤلاء لَهم، كمثل الذي يُجيبه بهذا الصوت، لا ينفعه، لا يَسمع إلا دعاء ونداء. قال: والعرب تسمي ذلك الصدى.
* * *
وقد تحتمل الآية على هذا التأويل وجهًا آخر غير ذلك. وهو أن يكون معناها: ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءَهم، كمثل الناعق بغنم لهُ من حيث لا تسمعُ صوتَه غنمُه، فلا تنتفع من نَعقِه بشيء، غير أنه في عَناء من دعاء ونداء, فكذلك الكافر في دعائه آلهته، إنما هو في عناء من دعائه إياها وندائه لها, ولا ينفعه شيء.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويل عندي بالآية، التأويل الأول الذي قاله ابن عباس ومَن وافقه عليه. وهو أن معنى الآية: ومثل وَعظ الكافر وواعظه، كمثل الناعق بغنمه ونَعيقه, فإنه يسمع نَعقه ولا يعقل كلامه، على ما قد بينا قبل.
فأما وَجه جَواز حذف " وعظ " اكتفاء بالمثل منه، فقد أتينا على البيان عنه في قوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [سورة البقرة: 17]، وفي غيره من نظائره من الآيات، بما فيه الكفاية عن إعادته. (16) .
* * *
وإنما اخترنا هذا التأويل, لأن هذه الآية نـزلت في اليهود, وإياهم عَنى الله تعالى ذكره بها, ولم تكن اليهود أهل أوثان يَعبدونها، ولا أهل أصنام يُعظمونها ويرجون نَفعها أو دَفع ضرها. ولا وجه -إذ كان ذلك كذلك- لتأويل من تأوّل ذلك أنه بمعنى: مَثل الذين كفروا في ندائهم الآلهة ودُعائهم إياها.
* * *
فإن قال قائل: وما دليلك على أنّ المقصود بهذه الآية اليهود؟
قيل: دليلنا على ذلك مَا قبلها من الآيات وما بعدها, فإنهم هم المعنيون به. فكان ما بينهما بأن يكون خبرًا عنهم، أحق وأولى من أن يكون خبرًا عن غيرهم، حتى تأتي الأدلة واضحةً بانصراف الخبر عنهم إلى غيرهم. هذا، مع ما ذكرنا من الأخبار عَمن ذكرنا عنه أنها فيهم نـزلت, والرواية التي روينا عن ابن عباس أنّ الآية التي قبل هذه الآية نـزلت فيهم. (17) وبما قُلنا من أن هذه الآية معنيّ بها اليهود، كان عطاء يقول:
2463- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال لي عطاء في هذه الآية: هم اليهود الذين أنـزل الله فيهم: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا إلى قوله: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ [سورة البقرة: 174-175].
* * *
وأما قوله: " يَنعِق "، فإنه: يُصوِّت بالغنم،" النَّعيق، والنُّعاق ", ومنه قول الأخطل:
فَـانْعِقْ بِضَـأْنِكَ يَـا جَـرِيرُ, فَإِنَّمَـا
مَنَّتْـكَ نَفْسَـكَ فِـي الخَــلاءِ ضَــلالا (18)
يعني: صوِّت به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171)
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " صُمٌّ بُكمٌ عُميٌ"، هؤلاء الكفارَ الذين مَثلهم كمثل الذي يَنعق بما لا يسمع إلا دُعاءً ونداءً" صُمٌ" عن الحق فهم لا يسمعون -" بُكمٌ" يعني: خُرسٌ عن قيل الحقّ والصواب، والإقرار بما أمرهم الله أن يقرُّوا به، وتبيين ما أمرهم الله تعالى ذكره أن يُبينوه من أمر محمد صلى الله عليه وسلم للناس, فلا ينطقون به ولا يقولونه، ولا يبينونه للناس -," عُميٌّ" عن الهدى وطريق الحق فلا يبصرونه، (19) . كما:-
2464- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله: " صُمٌ بكم عمي"، يقول: صم عن الحق فلا يسمعونه، ولا ينتفعون به ولا يعقلونه؛ عُمي عن الحق والهدى فلا يبصرونه؛ بُكم عن الحقّ فلا ينطقون به.
2465- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: " صم بكم عمي" يقول: عن الحق.
2466- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: " صم بكم عمي"، يقول: لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه.
* * *
وأما الرفع في قوله: " صم بكم عمي"، فإنه أتاهُ من قبل الابتداء والاستئناف, يدل على ذلك قوله: " فهم لا يعقلون "، كما يقال في الكلام: " هو أصم لا يسمع، وهو أبكم لا يتكلم ". (20)
---------------
الهوامش :
(8) الخبر : 2451- هذا خبر منهار الإسناد . أما"محمد بن عبد الله بن زريع" شيخ الطبري فلم أجد ترجمته . والطبري يروي عن"محمد بن عبد الله بن بزيع" ، ولا أستطيع الترجيح بأنه هو ، حرف اسم جده .
وأما"يوسف بن خالد السمتي" : فهو ضعيف جدًا ، قال فيه ابن معين : "كذاب ، زنديق ، لا يكتب حديثه" . ولا يشتغل بمثله . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/2/388 ، وابن سعد 7/2/47 ، وابن أبي حاتم 4/2/221-222 . و"السمتي" : بفتح السين وسكون الميم ، نسبة إلى السمت والهيئة . قال ابن سعد : "وقيل له : السمتي - للحيته وهيئته وسمته"!!
نافع بن مالك : هو الأصبحي ، أبو سهيل ، وهو عم الإمام مالك بن أنس ، وهو تابعي ثقة . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/2/86 ، وابن أبي حاتم 4/1/453 .
(9) مضى تخريج هذا البيت في هذا الجزء : 281 تعليق : 1 ، وهذا القول في تفسير الآية ذكره الفراء في معاني القرآن 1 : 100 .
(10) ديوانه : 90 ، وسيأتي في التفسير 30 : 146 (بولاق) ، ومجاز القرآن : 65 ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 99 ، ومشكل القرآن : 151 ، والإنصاف : 164 ، وأمالي بن الشجرى 1 : 52 ، 324 ، وأمال الشريف 1 : 202 ، 216 ، ومعجم ما استعجم : 1238 . وهو من قصيدة مضى منها تخريج بيت في هذا الجزء : 213 . وقوله : "ذي المطارة" (بفتح الميم) ، وهو اسم جبل . وعاقل : قد عقل في رأس الجبل ، لجأ إليه واعتصم به وامتنع . والوعل : تيس الجبل : يتحصن بوزره من الصياد . وقد ذكر البكري أنه رأى لابن الأعرابي أنه يعني بذي المطارة (بضم الميم) ناقته ، وأنها مطارة الفؤاد من النشاط والمرح . ويعني بذلك : ما عليها من الرحل والأداة . يقول : كأني على رحل هذه الناقة وعلى عاقل من الخوف والفرق .
(11) النابغة الجعدي .
(12) سيأتي في التفسير 2 : 198 ، 327 (بولاق) ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 99 ، 131 ، ومشكل القرآن : 153 ، والإنصاف : 165 ، وأمالي الشريف 1 : 216 ، والصاحبي : 172 ، وسمط اللآلي : 368 ، واللسان (زنا) . وقال الطبري في 2 : 327 ، "يعني : كما كان الرجم الواجب من حد الزنا" .
(13) سيأتي في التفسير : (2؛ 198 بولاق) ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 99 ، 131 ، وأمالي الشريف 1 : 216 ، واللسان (حلا) . يقال : "ما في الحي أحد تجهره عيني" ، أي تأخذه عيني فيعجبني . وفي حديث صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول علي : "لم يكن قصيرًا ولا طويلا ، وهو إلى الطول أقرب . من رآه جهره" ، أي عظم في عينه .
(14) هذا الذي مضى أكثر من قول الفراء في معاني القرآن 1 : 99 .
(15) هذا من نص كلام أبي عبيدة في مجاز القرآن : 63-64 .
(16) انظر ما سلف 1 : 318-328 ، واطلب ذلك في فهرس العربية من الجزاء السالفة .
(17) هذا موضع مشكل في كلام أبي جعفر رضي الله عنه ، كان ينبغي أن يبينه فضل بيان . فإن صدر عبارته قاض بأن كل الآيات التي قبل هذه الآية نزلت في يهود ، وليس كذلك . ثم عاد بعد قليل يقول : "هذا مع الرواية التي رويناها عن ابن عباس أن الآية التي قبل هذه الآية نزلت فيهم" -يعني في يهود . ولو كان الأمر كما يفهم من صدر عبارته ، لم يكن لنصه بعد ذلك على أن الآية التي"قبل هذه الآية" نزلت فيهم ، فيما روي عن ابن عباس- معنى مفهوم .
والظاهر أن أبا جعفر كان أراد أن يقول : إن الآيات السالفة نزلت في اليهود - إلا الآيات الأخيرة من أول قوله : "إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار" إلى قوله : "وإلهكم إله وحد" (163-170) ، فهي قد نزلت في كفار العرب ، وذكر ابن عباس أن الآية الأخيرة : (170) نزلت في يهود أيضًا . ثم إن الآيات بعدها هي ولا شك في يهود وأهل الكتاب ، فلذلك حمل معنى الآية هذه أنه مراد به اليهود . فكأنه جعل الآيات من (163-169) اعتراضًا في سرد قصة واحدة ، هي قصة يهود .
فإن لم يكن ذلك كذلك ، فلست أدري كيف يتسق كلامه . فهو منذ بدأ في تفسير هذه الآيات من 163-169 لم يذكر إلا أهل الشرك وحدهم ، وبين أن المقصود بقوله تعالى : "يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبًا" - هم الذين حرموا على أنفسهم البحائر والسوائب والوصائل (ص 300) ، ثم عاد في تأويل قوله تعالى : "وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون" فقال : فهو ما كانوا يحرمون من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي (ص 303 ) . واليهود ، كما أنهم لم يكونوا أهل أوثان يعبدونها ، أو أصنام يعظمونها كما قال أبو جعفر ، فهم أيضًا لم يحرموا بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة كما ذكر في تفسير الآيات السالفة . فهذا تناقض منه ر حمه الله - إلا إذا حمل كلامه على استثناء الآيات التي ذكرت أنه فسرها على أنه مراد بها مشركوا العرب الذين حرموا على أنفسهم ما حرموا من البحائر والسوائب والوصائل .
والصواب من القول عندي ، أن هذه الآية تابعة للآيات السالفة ، وأن قصتها شبيهة بقصة ما قبلها في ذكر المشركين الذي قال الله لهم : "يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبًا" ، وأن العود إلى قصة أهل الكتاب هو من أول قوله تعالى : "إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب" والآيات التي تليها . وانظر ما سيأتي : 317 ، فإنه قد عاد هناك ، فجعل الآية خاصة بالمشركين من أهل الجاهلية ، بذكره ما حرموا على أنفسهم من المطاعم ، وهو تناقض شديد .
(18) ديوانه : 50 ، ونقائض جرير والأخطل : 81 ، وطبقات فحول الشعراء : 429 ، ومجاز القرآن : 64 ، واللسان (نعق) وقد مضت أبيات منها في 2 : 38 : 39 ، 492 ، 496 ، وهذا الجزء 3 : 294 ، وقد ذكر قبله حروب رهطه بني تغلب ، ثم قال لجرير : إنما أنت راعي غنم ، فصوت بغنمك ، ودع الحروب وذكرها . فلا علم لك ولا لأسلافك بها . وكل ما تحدث به نفسك من ذلك ضلال وباطل .
(19) انظر تفسير : "صم""بكم""عمي" فيما سلف 1 : 328-331 . وقد حمل أبو جعفر معنى الآية هنا على أنه عنى به اليهود وأهل الكتاب . وانظر التعليق السالف ص : 314 ، رقم : 1 .
(20) انظر إعرابه في الآية الأخرى فيما سلف 1 : 329-330 .