تفسير الطبري
تفسير الآية رقم 193 من سورة البقرة
القول في تأويل قوله تعالى : وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وقاتلوا المشركين الذين يقاتلونكم حتى لا تكون فتنة = يعني: حتى لا يكون شركٌ بالله، وحتى لا يُعبد دونه أحدٌ، وتضمحلَّ عبادة الأوثان والآلهة والأنداد، وتكونَ العبادة والطاعة لله وحده دون غيره من الأصنام والأوثان، كما قال قتادة فيما:
3113- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " قال: حتى لا يكون شرك.
3114- حدثنا الحسن بن يحيى، قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: " وقاتلوهم حَتى لا تكون فتنة " قال: حتى لا يكون شرك.
3115 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " قال: الشرك " ويكون الدِّين لله ".
3116- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
3117 - حدثني موسى بن هارون، قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " قال: أما الفتنة فالشرك.
3118 - حدثني محمد بن سعد، قال، حدثني أبي، قال، حدثني عمي، قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: " وقاتلوهم حتى لا تكونَ فتنة "، يقول: قاتلوا حتى لا يكون شِرك.
3119 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: " وقاتلوهم حَتى لا تكونَ فتنة " أي شركٌ.
3120- حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " قال: حتى لا يكون كفر، وقرأ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [سورة الفتح: 16].
3121- حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح، قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " يقول: شركٌ.
* * *
وأما " الدين "، الذي ذكره الله في هذا الموضع (4) فهو العبادة والطاعة لله في أمره ونهيه، من ذلك قول الأعشى:
هُـوَ دَانَ الرِّبَـابَ, إِذْ كَرِهُـوا الـدِّي
نَ, دِرَاكًـــا بِغَـــزْوَةٍ وَصِيَــالِ (5)
يعني بقوله: " إذ كرهوا الدين "، إذ كرهوا الطاعة وأبوْها.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
3122- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: " ويكونَ الدِّينُ لله " يقول: حتى لا يُعبد إلا الله، وذلك " لا إله إلا الله "، عليه قاتل النبيُّ صلى الله عليه وسلم وإليه دعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنّي أمرتُ أن أقاتِل الناسَ حتى يَقولوا لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك فقد عَصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقِّها وحسابهم على الله ".
3123- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: " ويكون الدِّينُ لله " أن يقال: " لا إله إلا الله ". ذُكِر لنا أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: " إنّ الله أمرَني أن أقاتِل الناسَ حتى يقولوا لا إله إلا الله ". ثم ذكر مثل حديث الربيع.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " فإن انتهوا " فإن انتهى الذين يقاتلونكم من الكفار عن قتالكم، ودَخلوا في ملّتكم، وأقرُّوا بما ألزمكم الله من فرائضه، وتركوا ما هم عليه من عبادة الأوثان، فدعوا الاعتداءَ عليهم وقتالَهم وجهادَهم، فإنه لا ينبغي أن يُعتدى إلا على الظالمين -وهم المشركون بالله، والذين تركوا عبادته وعبدوا غيرَ خالقهم.
* * *
فإن قال قائل: وهل يجوز الاعتداء على الظالم فيقال: " فَلا عُدوان إلا على الظالمين "؟ (6) .
قيل: إن المعنى في ذلك على غير الوجه الذي إليه ذهبتَ، وإنما ذلك على وَجه المجازاة، لما كان من المشركين من الاعتداء، يقول: افعلوا بهم مثل الذي فعلوا بكم، كما يقال: " إن تَعاطيتَ منّي ظلما تعاطيته منك "، والثاني ليس بظلم، كما قال عمرو بن شأس الأسديّ:
جَزَيْنَـا ذَوِى العُـدْوَانِ بِالأمْسِ قَرْضَهُمْ
قِصَاصًـا, سَـواءً حَذْوَكَ النَّعْلَ بِالنَّعْلِ (7)
وإنما كان ذلك نظير قوله: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [سورة البقرة: 15] و فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ [سورة التوبة: 79] وقد بينا وجه ذلك ونظائره فيما مَضى قبلُ (8) .
* * *
وبالذي قلنا في ذلك من التأويل قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
3124 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " فلا عُدوان إلا على الظالمين " والظالم الذي أبى أن يقول: " لا إله إلا الله ".
3125 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع." فلا عُدوان إلا على الظالمين " قال: هم المشركون.
3126 - حدثني المثنى، قال، ثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا عثمان بن غياث، قال، سمعت عكرمة في هذه الآية: " فلا عدوان إلا على الظالمين "، قال: هُم من أبى أن يقول: " لا إله إلا الله ".
* * *
وقال آخرون: معنى قوله: " فلا عدوان إلا على الظالمين " فلا تقاتل إلا من قاتل.
* ذكر من قال ذلك:
3127 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " فإن انتهوا فلا عُدوان إلا على الظالمين " يقول: لا تقاتلوا إلا من قاتلكم.
3128- حدثني المثنى، قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
3129 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قال: " فإن انتهوا فلا عُدوان إلا على الظالمين " فإنّ الله لا يحب العُدوان على الظالمين ولا على غيرهم، ولكن يقول: اعتدُوا عليهم بمثل ما اعتدوْا عليكم.
* * *
قال أبو جعفر: فكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول في قوله: " فإن انتهوْا فلا عُدوان إلا على الظالمين " لا يجوز أن يقول: " فإن انتهوا " إلا وقد علم أنهم لا يَنتهون إلا بعضهم، فكأنه قال: فإن انتهى بعضُهم، فلا عُدوان إلا على الظالمين منهم، فأضمر كما قال: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [سورة البقرة: 196] يريد: فعليه ما استيسر من الهدي، وكما يقول: " إلى مَن تقصد أقصد " يعني: إليه.
وكان بعضهم ينكر الإضمار في ذلك ويتأوله: فإن انتهوا فإن الله غفورٌ رحيم لمن انتهى، ولا عُدوان إلا على الظالمين الذين لا ينتهون.
-----------
الهوامش:
وأما شيخه -في هذا الإسناد-"أبو حماد" : فلا ندري من هو؟ والظن أنه زيادة خطأ من الناسخين . وهكذا ظن أخي السيد محمود ، أيضًا .
(4) انظر معنى"الدين" فيما سلف 1 : 155 ، 221 .
(5) ديوانه : 12 وسيأتي في التفسير 3 : 141 (بولاق) ، قالها في مدح الأسود بن المنذر اللخمي ، أخي النعمان بن المنذر لأمه ، وأم الأسود من تيم الرباب . هذا قول أبي عبيدة ، والصواب ما قال غيره : أنه قالها في مدح المنذر بن الأسود ، وكان غزا الحليفين أسدا وذبيان ، ثم أغار على الطف ، فأصاب نعما وأسرى وسبيا من رهط الأعشى بني سعد بن ضبيعة بن ثعلبة ، والأعشى غائب . فلما قدم وجد الحي مباحا . فأتاه فأنشده ، وسأله أن يهب له الأسرى ويحملهم ، ففعل .
والرباب (بكسر الراء) هم بنو عبد مناة بن أد : تيم وعدي وعوف وثور ، اجتمعوا فتحالفوا مع بني عمهم ضبة بن أد ، على بني عمهم تميم بن أد . فجاؤوا برب (تمر مطبوخ) فغمسوا فيه أيديهم ، فسموا"الرباب" ، ثم خرجت ضبة عنهم ، واكتفت بعددها .
وقوله : "دان الرباب" أي أذلهم واستعبدهم وحملهم على الطاعة . وقوله : "دراكا" ، متتابعا يدرك بعضه بعضا . والصيال : السطرة . صال على عدوه : وثب عليه وسطا . يقول تابع غزوهم والسطو حتى دانو بالطاعة .
(6) انظر معنى"العدوان" فيما سلف 2 : 307 ، وهذا الجزء 3 : 376 ، 564 .
(7) لم أجد البيت ، وشعر عمرو بن شأس على كثرته وجودته ، قد ضاع أكثره .
(8) انظر ما سلف 1 : 301-306 .