تفسير الطبري
تفسير الآية رقم 205 من سورة البقرة
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: " وإذا تولى " ، وإذا أدبر هذا المنافق من عندك يا محمد منصرفًا عنك. (32) كما:-
3980 - حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال حدثني محمد بن أبي محمد قال: حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس: " وإذا تولى "، قال: يعني: وإذا خرج من عندك " سعى ". (33)
* * *
وقال بعضهم: وإذا غضب.
* ذكر من قال ذلك:
3981 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج قال: قال ابن جريج في قوله: " وإذا تولى "، قال: إذا غضب.
* * *
فمعنى الآية: وإذا خرَج هذا المنافق من عندك يا محمد غضْبان، عَمل في الأرض بما حرَّم الله عليه، وحاول فيها معصيةَ الله، وقطعَ الطريق وإفسادَ السبيل على عباد الله، كما قد ذكرنا آنفًا من فعل الأخنس بن شريق الثقفي، الذي ذكر السدي أن فيه نـزلت هذه الآية، من إحراقه زرع المسلمين وقتله حُمرهم. (34)
* * *
و " السعي" في كلام العرب العمل، يقال منه: " فلان يسعى على أهله "، يعني به: يعمل فيما يعود عليهم نفعه، ومنه قول الأعشى:
وَسَـعَى لِكِنْـدَةَ سَـعْيَ غَـيْرِ مُـوَاكِلٍ
قَيْسٌ فَضَــرَّ عَدُوَّهــا وَبَنَـى لَهَـا (35)
يعني بذلك: عمل لهم في المكارم.
* * *
وكالذي قلنا في ذلك كان مجاهد يقول.
3982 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله " وإذا تولى سعى "، قال: عمل.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى " الإفساد " الذي أضافه الله عز وجل إلى هذا المنافق.
فقال بعضهم: تأويله ما قلنا فيه من قطعه الطريق وإخافته السبيل، كما قد ذكرنا قبل من فعل الأخنس بن شريق.
* * *
وقال بعضهم: بل معنى ذلك قطع الرحم وسفك دماء المسلمين.
* ذكر من قال ذلك:
3983 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج في قوله: " سعَى في الأرض ليفسد فيها "، قطع الرحم، وسفك الدماء، دماء المسلمين، فإذا قيل: لم تَفعل كذا وكذا ؟ قال أتقرب به إلى الله عز وجل.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنّ الله تبارك وتعالى وَصَف هذا المنافقَ بأنه إذا تولى مدبرًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَمِل في أرض الله بالفساد. وقد يدخل في" الإفساد " جميع المعاصي، (36) وذلك أن العمل بالمعاصي إفسادٌ في الأرض، فلم يخصص الله وصفه ببعض معاني" الإفساد " دون بعض. وجائزٌ أن يكون ذلك الإفساد منه كان بمعنى قطع الطريق، وجائز أن يكون غير ذلك. وأيّ ذلك كان منه فقد كان إفسادًا في الأرض، لأن ذلك منه لله عز وجل معصية. غير أن الأشبه بظاهر التنـزيل أن يكون كان يقطع الطريقَ ويُخيف السبيل. لأن الله تعالى ذكره وصَفه في سياق الآية بأنه " سَعى في الأرض ليفسد فيها ويُهلك الحرث والنسل "، وذلك بفعل مخيف السبيل، أشبهُ منه بفعل قَطَّاع الرحم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في وجه " إهلاك " هذا المنافق، الذي وصفه الله بما وصفَه به من صفة " إهلاك الحرث والنسل ".
فقال بعضهم: كان ذلك منه إحراقًا لزرع قوم من المسلمين وعقرًا لحمُرهم.
3984 - حدثني بذلك موسى بن هارون، قال: حدثني عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدي. (37)
* * *
وقال آخرون بما:-
3985 - حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثام، قال: حدثنا النضر بن عربي، عن مجاهد: " وإذا تولى سعى في الأرض ليُفسد فيها ويُهلك الحرث والنسل " الآية. قال: إذا تولى سعى في الأرض بالعدوان والظلم، فيحبس الله بذلك القطرَ، فيُهلك الحرثَ والنسلَ والله لا يحب الفساد. قال: ثم قرأ مجاهد: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41] قال: ثم قال: أما والله ما هو بحركم هذا، ولكن كل قرية على ماءٍ جارٍ فهو " بحر ". (38)
* * *
والذي قاله مجاهد، وإن كان مذهبًا من التأويل تحتمله الآية، فإن الذي هو أشبهُ بظاهر التنـزيل من التأويل ما ذكرنا عن السدي، فلذلك اخترناه
* * *
وأما " الحرث " فإنه الزرع، والنسل: العقب والولد.
* * *
" وإهلاكه الزرع " إحراقه. وقد يجوز أن يكون كان كما قال مجاهد باحتباس القطر من أجل معصيته ربَّه وَسعيه بالإفساد في الأرض. وقد يحتمل أن يكون كان بقتله القُوَّام به والمتعاهدين له حتى فسد فهلك. وكذلك جائز في معنى: " إهلاكه النسل ": أن يكون كانَ بقتله أمهاته أو آباءه التي منها يكون النسل، فيكون في قتله الآباء والأمهات انقطاع نسلهما. وجائزٌ أن يكون كما قال مجاهد، غير أن ذلك وإن كان تحتمله الآية، فالذي هو أولى بظاهرها ما قاله السدي غير أن السدي ذكر أن الذي نـزلت فيه هذه الآية إنما نـزلت في قتله حُمُرَ القوم من المسلمين وإحراقه زرعًا لهم. وذلك وإن كان جائزًا أن يكون كذلك، فغير فاسد أن تكون الآية نـزلت فيه، والمراد بها كلُّ من سلك سبيله في قتل كل ما قَتل من الحيوان الذي لا يحلّ قتله بحال، والذي يحلّ قتله في بعض الأحوال - إذا قتله بغير حق، بل ذلك كذلك عندي، لأن الله تبارك وتعالى لم يخصُص من ذلك شيئًا دون شيء بل عمَّه.
وبالذي قلنا في عموم ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
3986 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى وعبد الرحمن، قالا حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن التميمي أنه سأل ابن عباس: " ويهلك الحرث والنسل "، قال: نسلَ كل دابة.
3987 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، أنه سأل ابن عباس: قال: قلت أرأيت قوله: " الحرث والنسل "؟ قال: الحرث حرثكم، والنسل: نسل كل دابة.
3988 - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن أبي إسحاق، عن التميمي، قال: سألت ابن عباس عن " الحرث والنسل "، فقال: الحرثُ: مما تحرثون، والنسلُ: نسل كلّ دابة.
3989 - حدثنا ابن حميد، قال. حدثنا حكام، عن عمرو، عن مطرِّف، عن أبي إسحاق، عن رجل من تميم، عن ابن عباس، مثله. (39)
3990 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: " ويهلك الحرثَ والنسل "، فنسلَ كل دابة، والناس أيضًا.
3991 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: ثني عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " ويهلك الحرث "، قال: نبات الأرض،" والنسل " من كل دابة تمشي من الحيوان من الناس والدواب.
3992 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: " ويهلك الحرث "، قال: نبات الأرض،" والنسل " : نسل كل شيء.
3993 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، قال: الحرثُ النبات، والنسل: نسل كل دابة.
3994 - حدثني عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: " ويهلك الحرث "، قال: " الحرث " الذي يحرثه الناس: نباتُ الأرض،" والنسل " نسل كل دابة.
3995 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: " ويهلكَ الحرثَ والنسل "، قال: الحرث: الزرع، والنسل من الناس والأنعام، قال: يقتُل نسْل الناس والأنعام= قال: وقال مجاهد: يبتغي في الأرض هلاك الحرث- نباتَ الأرض- والنسل من كل شيء من الحيوان.
3996 - حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: " ويهلك الحرثَ والنسل "، قال: الحرث: الأصل، والنسل: كل دابة والناس منهم. (40)
3997 - حدثني ابن عبد الرحيم البرقيّ، قال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة، قال، (41) سئل سعيد بن عبد العزيز عن " فساد الحرث والنسل " وما هما: أيُّ حرث، وأيُّ نسل ؟ قال سعيد: قال مكحول: الحرث: ما تحرثون، وأما النسل: فنسْل كل شيء.
* * *
قال أبو جعفر: وقد قرأ بعض القرأة : " ويهلكُ الحرث والنسل " برفع " يهلك "، = على معنى: ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام، ويهلك الحرثَ والنسل، وإذا تولى سعى في الأرض ليُفسد فيها، والله لا يجب الفساد= فيردُّ" ويُهلكُ" على " ويشهدُ الله " عطفًا به عليه.
وذلك قراءةٌ عندي غير جائزة، وإن كان لها مخرج في العربية، لمخالفتها لما عليه الحجة مجمعةٌ من القراءة في ذلك، قراءةَ" ويهلكَ الحرثَ والنسل "، وأن ذلك في قراءة أبيّ بن كعب ومصحفه - فيما ذكر لنا: (42) " ليفسد فيها وليهلك الحرث والنسل "، وذلك من أدل الدليل على تصحيح قراءة من قرأ ذلك " ويهلك " بالنصب، عطفًا به على: لِيُفْسِدَ فِيهَا .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: والله لا يحب المعاصيَ، وقطعَ السبيل، وإخافة الطريق.
* * *
و " الفساد " مصدر من قول القائل: " فسد الشيء يفسُد "، نظير قولهم: " ذهب يذهب ذهابًا ". ومن العرب من يجعل مصدر " فسد "" فسودًا "، ومصدر " ذهب يذهب ذُهوبًا ". (43)
---------------
الهوامش :
(32) انظر معنى"التولي" فيما سلف 2 : 162- 163 ، 298 ، 535/ ثم 3 : 115 ، 131 .
(33) الأثر : 3980 - هو بعض الأثر السالف رقم : 3962 .
(34) انظر الأثر رقم : 3961 السالف .
(35) ديوانه : 25 ، وكان في المطبوعة"ونبالها" وهو خطأ وقيس هو قيس بن معد يكرب الكندي ، كان يكثر مدحه والثناء عليه .
(36) انظر معنى"الإفساد في الأرض" فيما سلف 1 : 287- 290 ، 416 ثم معنى"الفساد" فيما سيأتي : 243 ، 244 .
(37) يعني الأثر السالف رقم : 3961 .
(38) الأثر : 3985 - سيأتي هذا الأثر في تفسير الآية من سورة الروم ج : 21 : 32 (بولاق) .
(39) الآثار : 3986- 3989 . "التميمي" ، قد مضى ما كتبه أخي السيد أحمد في التعليق على الأثر رقم : 2095 . ولكن ظهر من الأثر رقم . 3989 ، أنه رجل من بني تميم - مجهول الاسم فيما يظهر ، كان يسأل ابن عباس كما كان يسأله أصحاب المسائل من الأمة وذلك بين في مسند أبي داود الطيالسي رقم : 2739 ص 358 .
(40) قوله : "الحرث : الأصل" معنى قلما تصيبه في كتب اللغة بينا ، ولكنه أتى فيها معترضا كقولهم : "الحرث أصل جردان الحمار" وهذا تخصيص ، وهذا الأثر دال على عموم معنى"الحرث" أنه : الأصل وهو جيد في مجاز اللغة .
(41) في المطبوعة"عمر بن أبي سلمة" والصواب ما أثبت .
(42) في المطبوعة : "فيما ذكرنا" وهو لا يستقيم .
(43) انظر معنى"الإفساد في الأرض" 1 : 287- 290 ، 416 وما سلف قريبًا : 239 . وانظر أيضًا معاني القرآن للفراء 1 : 124 .