تفسير الطبري
تفسير الآية رقم 215 من سورة البقرة
القول في تأويل قوله تعالى : يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يسألك أصحابك يا محمد، أي شيء ينفقون من أموالهم فيتصدقون به ؟، وعلى مَن ينفقونه فيما ينفقونه ويتصدقون به ؟ فقل لهم: ما أنفقتم من أموالكم وتصدقتم به، فأنفقوه وتصدقوا به واجعلوه لآبائكم وأمهاتكم وأقربيكم، ولليتامى منكم، والمساكين، وابن السبيل، فإنكم ما تأتوا من خير وتصنعوه إليهم فإن الله به عليم، وهو مُحْصيه لكم حتى يوفِّيَكم أجوركم عليه يوم القيامة، ويثيبكم = على ما أطعتموه بإحسانكم = عليه.
* * *
و " الخير " الذي قال جل ثناؤه في قوله: " قل ما أنفقتم من خير "، هو المال الذي سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أصحابُه من النفقة منه، فأجابهم الله عنه بما أجابهم به في هذه الآية.
* * *
وفي قوله: " ماذا "، وجهان من الإعراب.
أحدهما: أن يكون " ماذا " بمعنى: أيّ شيء ؟، فيكون نصبًا بقوله: " ينفقون ".
فيكون معنى الكلام حينئذ: يسألونك أيَّ شيء ينفقون؟، ولا يُنصَب بـ " يسألونك ". والآخر منهما الرفع. وللرفع في" ذلك " وجهان: أحدهما أن يكون " ذا " الذي مع " ما " بمعنى " الذي"، فيرفع " ما " ب " ذا " و " ذا " لِ" ما "، و " ينفقون " من صلة " ذا "، فإن العرب قد تصل " ذا " و " هذا "، كما قال الشاعر: (35)
عَــدَسْ! مَـا لِعَبَّـادٍ عَلَيْـكِ إمَـارَةٌ
أمنْــتِ وهــذَا تَحْــمِلِينَ طَلِيـقُ! (36)
فـ " تحملين " من صلة " هذا ".
فيكون تأويل الكلام حينئذ: يسألونك ما الذي ينفقون؟
والآخر من وجهي الرفع أن تكون " ماذا " بمعنى أيّ شيء، فيرفع " ماذا "، وإن كان قوله: " ينفقون " واقعًا عليه، (37) إذ كان العاملُ فيه، وهو " ينفقون "، لا يصلح تقديمه قبله، وذلك أن الاستفهامَ لا يجوز تقديم الفعل فيه قبل حرف الاستفهام، كما قال الشاعر: (38)
ألا تَسْــأَلانِ المَـرْءَ مَـاذَا يُحَـاِولُ
أَنَحْـبٌ فَيُقْضَـى أَمْ ضـلالٌ وَبَـاطِلُ (39)
وكما قال الآخر: (40)
وَقَـالُوا (41) تَعَرَّفْهـَا المَنَـازِلَ مِـنْ مِنًى
وَمَـا كُـلُّ مَـنْ يَغْشَى مِنًى أَنَا عَارِفُ (42)
فرفع " كل " ولم ينصبه " بعارف "، إذ كان معنى قوله: " وما كلُّ من يغشى منىً أنا عارف " جحودُ معرفه من يغشى منيً، فصار في معنى ما أحد. (43) وهذه الآية [نـزلت] (44) - فيما ذكر- قبل أن يفرض الله زكاةَ الأموال.
* ذكر من قال ذلك:
4068 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: " يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين "، قال: يوم نـزلت هذه الآية لم تكن زكاة، وإنما هي النفقةُ ينفقها الرجل على أهله، والصدقة يتصدق بها فنسختها الزكاة.
4069 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج: سأل المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم أينَ يضعون أموالهم ؟ فنـزلت: " يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامىَ والمساكين وابن السبيل "، فذلك النفقةُ في التطوُّع، والزكاةُ سوى ذلك كله= قال: وقال مجاهد: سألوا فأفتاهم في ذلك: " ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين " وما ذكر معهما.
4070 - حدثنا محمد بن عمرو، قال حدثنا أبو عاصم، قال: حدثني عيسى، قال: سمعت ابن أبي نجيح في قول الله: " يسألونك ماذا ينفقون "، قال: سألوه فأفتاهم في ذلك: " فللوالدين والأقربين " وما ذكر معهما.
4071 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد = وسألته عن قوله: " قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين "= قال: هذا من النوافل، قال: يقول: هم أحق بفضلك من غيرهم.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله السدي = : من أنه لم يكن يوم نـزلت هذه الآية زكاةٌ، وإنما كانت نفقةً ينفقها الرجل على أهله، وصدقةً يتصدق بها، ثم نسختها الزكاة = قولٌ ممكن أن يكون كما قال: وممكن غيره. ولا دلالة في الآية على صحة ما قال، لأنه ممكن أن يكون قوله: " قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين " الآية، حثًا من الله جل ثناؤه على الإنفاق على من كانت نفقته غيرَ واجبة من الآباء والأمهات والأقرباء، ومن سمي معهم في هذه الآية، وتعريفًا من الله عبادَه مواضع الفضل التي تُصرف فيها النفقات، كما قال في الآية الأخرى: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ [سورة البقرة: 177] . وهذا القول الذي قلناه في قول ابن جريج الذي حكيناه.
* * *
وقد بينا معنى المسكنة، ومعنى ابن السبيل فيما مضى، فأغنى ذلك عن إعادته. (45)
* * *
---------------------------
الهوامش :
(35) هو يزيد بن مفرغ الحميري .
(36) تاريخ الطبري 6 : 178 والأغاني 17 : 60 (ساسي) ومعاني القرآن للفراء 1 : 138 والخزانة : 2 : 216 ، 514 واللسان (عدس) من أبيات في قصة يزيد بن مفرغ مع عباد بن زياد بن أبي سفيان ، وكان معاوية ولاه سجستان فاستصحب معه يزيد بن مفرغ فاشتغل عنه بحرب الترك . فغاظ ذلك ابن مفرغ واستبطأ جائزته ، فبسط لسانه في لحية عباد وكان عباد عظيم اللحية فقال :
ألاَ لَيْــتَ اللِّحَــى كـانت حشيشًـا
فنَعْلِفَهـــا خـــيولَ المســـلمينَا
فعرف عباد ما أراد فطلبه منه ، فهجاه وهجا معاوية باستلحاق زياد بن أبي سفيان فأخذه عبيد الله بن زياد اخو عباد ، فعذبه عذابًا قبيحًا ، وأرسله إلى عباد ، ثم أمرهما معاوية بإطلاقه فلما انطلق على بغلة البريد ، قال هذا الشعر الذي أوله هذا البيت .
وقوله : "عدس" زجر للبغلة ، حتى صارت كل بغلة تسمى"عدس" . والشعر شعر جيد فاقرأه في المراجع السالفة .
(37) سلف أن"الوقوع" هو تعدي الفعل إلى المفعول ، فانظر فهرس المصطلحات وما سلف 2 : 108 ، 198 .
(38) هو لبيد بن ربيعة .
(39) ديوانه : 2/27 القصيدة : 41 ، وسيبويه 1 : 405 والخزانة 2 : 556 ومعاني القرآن للفراء 1 : 139 وغيرها . والشاهد فيه أنه رفع"نحب" وهو مردود على"ما" في"ماذا" . فدل ذلك على أن"ذا" بمعنى"الذي" وما بعده من صلته ، فلا يعمل فيما قبله . والنحب : النذر . يقول : أعليه نذر في طول سعيه الذي ألزم به نفسه؟ والنحب : الحاجة وهي صحيحة المعنى في مثل هذا البيت يقول : أهي حاجة لا بد منها يقضيها بسعيه ، أم هي اماني باطلة يتمناهان لو استغنى عنها وطرحها لما خسر شيئًا ، ولسارت به الحياة سيرًا بغير حاجة إلى هذا الجهاد المتواصل ، والاحتيال المتطاول؟
(40) هو مزاحم العقيلي .
(41) هو مزاحم العقيل
(42) ديوانه : 28 ، وسيبويه 1 : 36ن 73 ، شاهدا على نصب"كل" ورفعها ومعاني القرآن للفراء 1 : 139 وقال : لم"أسمع أحدًا نصب" كل وشرح شواهد المغني : 328 .
وقوله : "تعرفها المنازل" بنصبها على حذف الخافض أو الظرف أي تعرف صاحبتك بالمنازل من منى . فيقول : لا أعرف أحدًا يعرفها ممن يغشى مني فأسأله عنها .
(43) انظر أكثر ما مضى في معاني القرآن للفراء 138- 140 .
(44) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها ، ليستقيم الكلام .
(45) انظر تفسير"المسكين" فيما سلف 2 : 137 ، 293/ ثم 3 : 345 = ومعنى"اليتامى" فيما سلف 2 : 292/ ثم 3 : 345 = ومعنى"ابن السبيل" فيما سلف 3 : 345 .