تفسير الطبري
تفسير الآية رقم 219 من سورة البقرة
يسألونك عن الخمر والميسر
القول في تأويل قوله تعالى : { يسألونك عن الخمر والميسر } يعني بذلك جل ثناؤه : يسألك أصحابك يا محمد عن الخمر وشربها . والخمر : كل شراب خامر العقل فستره وغطى عليه , وهو من قول القائل : خمرت الإناء إذا غطيته , وخمر الرجل : إذا دخل في الخمر , ويقال , هو في خمار الناس وغمارهم , يراد به : دخل في عرض الناس , ويقال للضبع خامري أم عامر , أي استتري . وما خامر العقل من داء وسكر فخالطه وغمره فهو خمر , ومن ذلك أيضا خمار المرأة وذلك لأنها تستر به رأسها فتغطيه , ومنه يقال : هو يمشي لك الخمر , أي مستخفيا . كما قال العجاج : في لامع العقبان لا يأتي الخمر يوجه الأرض ويستاق الشجر ويعني بقوله : لا يأتي الخمر : لا يأتي مستخفيا ولا مسارقة ولكن ظاهرا برايات وجيوش ; والعقبان جمع عقاب , وهي الرايات . وأما " الميسر " فإنها " المفعل " من قول القائل : يسر لي هذا الأمر : إذا وجب لي فهو ييسر لي يسرا وميسرا , والياسر : الواجب , بقداح وجب ذلك أو مباحه أو غير ذلك , ثم قيل للمقامر : ياسر , ويسر كما قال الشاعر : فبت كأنني يسر غبين يقلب بعدما اختلع القداحا وكما قال النابغة : أو ياسر ذهب القداح بوفره أسف تأكله الصديق مخلع يعني بالياسر : المقامر , وقيل للقمار : ميسر , وكان مجاهد يقول نحو ما قلنا في ذلك . 3275 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : { يسألونك عن الخمر والميسر } قال : القمار , وإنما سمي الميسر لقولهم أيسروا واجزروا , كقولك ضع كذا وكذا . 3276 - حدثنا محمد بن بشار , قال : ثنا أبو عاصم , قال ثنا سفيان , عن ليث , عن مجاهد , قال : كل القمار من الميسر , حتى لعب الصبيان بالجوز . 3277 - حدثنا محمد بن بشار , قال : ثنا عبد الرحمن , قال : ثنا سفيان , عن عبد الملك بن عمير , عن أبي الأحوص , قال : قال عبد الله : إياكم وهذم الكعاب الموسومة التي تزجرون بها زجرا فإنهن من الميسر . 3278 - حدثنا محمد بن المثنى , قال : ثنا محمد بن جعفر , قال : ثنا شعبة , عن عبد الملك بن عمير , عن أبي الأحوص , مثله . * - حدثنا محمد بن المثنى , قال : ثنا محمد بن نافع , قال : ثنا شعبة , عن يزيد بن أبي زياد , عن أبي الأحوص , عن عبد الله أنه قال : إياكم وهذه الكعاب التي تزجرون بها زجرا , فإنها من الميسر . 3279 - حدثني علي بن سعيد الكندي , قال : ثنا علي بن مسهر , عن عاصم , عن محمد بن سيرين , قال : القمار : ميسر . * - حدثنا ابن بشار , قال : ثنا أبو عامر , قال : ثنا سفيان , عن عاصم الأحول , عن محمد بن سيرين , قال : كل شيء له خطر , أو في خطر - أبو عامر شك - فهو من الميسر . * - حدثنا الوليد بن شجاع أبو همام , قال : ثنا علي بن مسهر , عن عاصم , عن محمد بن سيرين , قال : كل قمار ميسر حتى اللعب بالنرد على القيام والصياح والريشة يجعلها الرجل في رأسه . * - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا جرير , عن عاصم , عن ابن سيرين , قال : كل لعب فيه قمار من شرب أو صياح أو قيام فهو من الميسر . 3280 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى , قال : ثنا خالد بن الحارث , قال : ثنا الأشعث , عن الحسن , أنه قال : الميسر : القمار . 3281 - حدثني يعقوب بن إبراهيم , قال : ثنا المعتمر , عن ليث , عن طاوس وعطاء قالا : كل قمار فهو من الميسر , حتى لعب الصبيان بالكعاب والجوز . 3282 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا حكام , عن عمرو , عن عطاء , عن سعيد , قال : الميسر : القمار . 3283 - حدثني يعقوب بن إبراهيم , قال : ثنا هشيم , قال : أخبرنا عبد الملك بن عمير , عن أبي الأحوص , عن عبيد الله قال : إياكم وهاتين الكعبتين يزجر بهما زجرا فإنهما من الميسر . 3284 - حدثني يعقوب بن إبراهيم , قال : ثنا ابن علية , عن ابن عروبة , عن قتادة قال : أما قوله والميسر , فهو القمار كله . 3285 - حدثني يونس بن عبد الأعلى , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم , عن عبيد الله بن عمر أنه سمع عمر بن عبيد الله يقول للقاسم بن محمد : النرد : ميسر , أرأيت الشطرنج ميسر هو ؟ فقال القاسم : كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة , فهو ميسر . 3286 - حدثني علي بن داود , قال : قال ثنا أبو صالح , قال : ثنى معاوية , عن علي , عن ابن عباس , قال : الميسر : القمار , كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله , فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله وماله . 3287 - حدثني موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو بن حماد , قال : ثنا أسباط , عن السدي , قال : الميسر القمار . * - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة , قال : الميسر القمار . 3288 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن الليث , عن مجاهد وسعيد بن جبير , قالا : الميسر : القمار كله , حتى الجوز الذي يلعب به الصبيان . 3289 - حدثت عن الحسين , قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد , قال : سمعت عبيد بن سليمان يحدث عن الضحاك قوله : الميسر : قال : القمار . * - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : الميسر القمار . 3290 - حدثنا المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا أبو بدر شجاع بن الوليد , قال : ثنا موسى بن عقبة , عن نافع أن ابن عمر كان يقول : القمار من الميسر . 3291 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد , قال : الميسر قداح العرب , وكعاب فارس , قال : وقال ابن جريج , وزعم عطاء بن ميسرة أن الميسر : القمار كله . 3292 - حدثنا ابن البرقي , قال : ثنا عمرو بن أبي سلمة , عن سعيد بن عبد العزيز , قال : قال مكحول : الميسر : القمار . * - حدثنا الحسن بن محمد الذارع , قال : ثنا الفضل بن سليمان وشجاع بن الوليد , عن موسى بن عقبة , عن نافع , عن ابن عمر , قال : الميسر : القمار .قل فيهما إثم كبير
وأما قوله : { قل فيهما إثم كبير } فإنه يعني بذلك جل ثناؤه : قل يا محمد لهم فيهما , يعني في الخمر والميسر إثم كبير . فالإثم الكبير الذي فيهما ما ذكر عن السدي فيما : 3293 - حدثني به موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو بن حماد , قال : ثنا أسباط , عن السدي : أما قوله : { فيهما إثم كبير } فإثم الخمر أن الرجل يشرب فيسكر فيؤذي الناس . وإثم الميسر أن يقامر الرجل فيمنع الحق ويظلم . 3294 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : { قل فيهما إثم كبير } قال : هذا أول ما عيبت به الخمر . 3295 - حدثني علي بن داود , قال : ثنا أبو صالح , قال : ثني معاوية بن صالح , عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس قوله : { قل فيهما إثم كبير } يعني ما ينقص من الدين عند من يشربها . والذي هو أولى بتأويل الآية , الإثم الكبير الذي ذكر الله جل ثناؤه أنه في الخمر والميسر , في الخمر ما قاله السدي زوال عقل شارب الخمر إذا سكر من شربه إياها حتى يعزب عنه معرفة ربه , وذلك أعظم الآثام , وذلك معنى قول ابن عباس إن شاء الله . وأما في الميسر فما فيه من الشغل به عن ذكر الله , وعن الصلاة , ووقوع العداوة والبغضاء بين المتياسرين بسببه , كما وصف ذلك به ربنا جل ثناؤه بقوله : { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة } 5 91ومنافع للناس
وأما قوله : { ومنافع للناس } فإن منافع الخمر كانت أثمانها قبل تحريمها , وما يصلون إليه بشربها من اللذة , كما قال الأعشى في صفتها . لنا من ضحاها خبث نفس وكأبة وذكرى هموم ما تفك أذاتها وعند العشاء طيب نفس ولذة ومال كثير عدة نشواتها وكما قال حسان : فنشربها فتتركنا ملوكا وأسدا ما ينهنهنا اللقاء وأما منافع الميسر فما مصيبون فيه من أنصباء الجزور , وذلك أنهم كانوا يياسرون على الجزور , وإذا أفلج الرجل منهم صاحبه نحره , ثم أقتسموا أعشارا على عدد القداح , وفي ذلك يقول أعشى بني ثعلبة . وجزور أيسار دعوت إلى الندى ونياط مقفرة أخاف ضلالها وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 3296 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , قال : المنافع ههنا ما يصيبون من الجزور . 3297 - حدثني موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو بن حماد , قال : ثنا أسباط عن السدي : أما منافعهما فإن منفعة الخمر في لذته وثمنه , ومنفعة الميسر فيما يصاب من القمار . 3298 - حدثنا أبو هشام الرفاعي , قال : ثنا ابن أبي زائدة , عن ورقاء , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : { قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس } قال : منافعهما قبل أن يحرما . 3299 - حدثنا علي بن داود , قال : ثنا أبو صالح , قال : ثني معاوية , عن علي , عن ابن عباس : { ومنافع للناس } قال : يقول فيما يصيبون من لذتها وفرحها إذا شربوها . واختلف القراء في قراءة ذلك , فقرأه معظم أهل المدينة وبعض الكوفيين والبصريين { قل فيهما إثم كبير } بالباء , بمعنى : قل في شرب هذه والقمار هذا كبير من الآثام . وقرأه آخرون من أهل المصرين , البصرة والكوفة : " قل فيهما إثم كبير " بمعنى الكثرة من الآثام , وكأنهم رأوا أن الإثم بمعنى الآثام , وإن كان في اللفظ واحدا فوصفوه بمعناه من الكثرة . وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأه بالباء { قل فيهما إثم كبير } لإجماع جميعهم على قوله : { وإثمهما أكبر من نفعهما } وقراءته بالباء ; وفي ذلك دلالة بينة على أن الذي وصف به الإثم الأول من ذلك هو العظم والكبر , لا الكثرة في العدد . ولو كان الذي وصف به من ذلك الكثرة , لقيل وإثمهما أكثر من نفعهما .وإثمهما أكبر من نفعهما
القول في تأويل قوله تعالى : { وإثمهما أكبر من نفعهما } يعني بذلك عز ذكره : والإثم بشرب هذه والقمار هذا , أعظم وأكبر مضرة عليهم من النفع الذي يتناولون بهما . وإنما كان ذلك كذلك , لأنهم كانوا إذا سكروا وثب بعضهم على بعض وقاتل بعضهم بعضا , وإذا ياسروا وقع بينهم فيه بسببه الشر , فأداهم ذلك إلى ما يأثمون به . ونزلت هذه الآية في الخمر قبل أن يصرح بتحريمها , فأضاف الإثم جل ثناؤه إليهما , وإنما الإثم بأسبابهما , إذ كان عن سببهما يحدث . وقد قال عدد من أهل التأويل : معنى ذلك وإثمهما بعد تحريمهما أكبر من نفعهما قبل تحريمهما . ذكر من قال ذلك : 3300 - حدثني محمد بن سعد , قال : ثني أبي , قال : ثني عمي , قال : ثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس : { وإثمهما أكبر من نفعهما } قال : منافعهما قبل التحريم , وإثمهما بعدما حرما . 3301 - حدثت عن عمار , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه عن الربيع : { ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما } ينزل المنافع قبل التحريم , والإثم بعد ما حرم . 3302 - حدثت عن الحسين , قال : سمعت أبا معاذ , قال : أخبرني عبيد بن سليمان , قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { وإثمهما أكبر من نفعهما } يقول : إثمهما بعد التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم . 3303 - حدثني علي بن داود , قال : ثنا عبد الله بن صالح , قال : ثني معاوية بن صالح , عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس قوله : { وإثمهما أكبر من نفعهما } يقوله : ما يذهب من الدين والإثم فيه أكبر مما يصيبون في فرحها إذا شربوها . وإنما اخترنا ما قلنا في ذلك من التأويل لتواتر الأخبار وتظاهرها بأن هذه نزلت قبل تحريم الخمر والميسر , فكان معلوما بذلك أن الإثم الذي ذكر الله في هذه الآية فأضافه إليهما إنما عنى به الإثم الذي يحدث عن أسبابهما على ما وصفنا , لا الإثم بعد التحريم . ذكر الأخبار الدالة على ما قلنا من أن هذه الآية نزلت قبل تحريم الخمر : 3304 - حدثنا أحمد بن إسحاق , قال : ثنا أبو أحمد , قال : ثنا قيس , عن سالم , عن سعيد بن جبير , قال : لما نزلت : { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيها إثم كبير ومنافع للناس } فكرهها قوم لقوله : { فيها إثم كبير } وشربها قوم لقوله : { ومنافع للناس } حتى نزلت : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } 4 43 قال : فكانوا يدعونها في حين الصلاة ويشربونها في غير حين الصلاة , حتى نزلت : { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه } 5 90 فقال عمر : ضيعة لك ! اليوم قرنت بالميسر . 3305 - حدثني محمد بن معمر , قال : ثنا أبو عامر , قال : ثنا محمد بن أبي حميد , عن أبي توبة المصري , قال : سمعت عبد الله بن عمر يقول : أنزل الله عز وجل في الخمر ثلاثا , فكان أول ما أنزل : { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير } الآية , فقالوا : يا رسول الله ننتفع بها ونشربها , كما قال الله جل وعز في كتابه . ثم نزلت هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } 4 43 الآية , قالوا : يا رسول الله لا نشربها عند قرب الصلاة قال : ثم نزلت : { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه } 5 90 الآية , قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حرمت الخمر " . 3306 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا يحيى بن واضح , قال : ثنا الحسين , عن يزيد النحوي , عن عكرمة والحسن قالا : قال الله : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } 4 43 و { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما } فنسختها الآية التي في المائدة , فقال : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر } 5 90 الآية . 3307 - حدثنا ابن بشار , قال : ثنا عبد الوهاب , قال : ثنا عوف , عن أبي القموص زيد بن علي , قال : أنزل الله عز وجل في الخمر ثلاث مرات ; فأول ما أنزل قال الله : { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما } قال : فشربها من المسلمين من شاء الله منهم على ذلك , حتى شرب رجلان , فدخلا في الصلاة , فجعلا يهجران كلاما لا يدري عوف ما هو , فأنزل الله عز وجل فيهما : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } فشربها من شربها منهم , وجعلوا يتقونها عند الصلاة , حتى شربها - فيما زعم أبو القميص - رجل , فجعل ينوح على قتلى بدر : تحيي بالسلامة أم عمرو وهل لك بعد رهطك من سلام ذريني أصطبح بكرا فإني رأيت الموت نقب عن هشام وود بنو المغيرة لو فدوه بألف من رجال أو سوام كأي بالطوي طوي بدر من الشيزى يكلل بالسنام كأي بالطوي طوي بدر من الفتيان والحلل الكرام قال : فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم , فجاء فزعا يجر رداءه من الفزع حتى انتهى إليه , فلما عاينه الرجل , فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا كان بيده ليضربه , قال : أعوذ بالله من غضب الله ورسوله , والله لا أطعمها أبدا ! فأنزل الله تحريمها : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس } . . إلى قوله : { فهل أنتم منتهون } 5 90 : 91 فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : انتهينا انتهينا . 3308 - حدثنا سفيان بن وكيع , قال : ثنا إسحاق الأزرق , عن زكريا عن سماك , عن الشعبي , قال : نزلت في الخمر أربع آيات : { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس } فتركوها , ثم نزلت : { تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا } 16 67 فشربوها . ثم نزلت الآيتان في المائدة { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام } إلى قوله : { فهل أنتم منتهون } 5 90 : 91 3309 - حدثني موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو بن حماد , قال : ثنا أسباط , عن السدي , قال : نزلت هذه الآية : { يسألونك عن الخمر والميسر } الآية , فلم يزالوا بذلك يشربونها , حتى صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما , فدعا ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم علي بن أبي طالب , فقرأ : { قل يا أيها الكافرون } ولم يفهمها , فأنزل الله عز وجل يشدد في الخمر : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } 4 43 فكانت لهم حلالا , يشربون من صلاة الفجر حتى يرتفع النهار أو ينتصف , فيقومون إلى صلاة الظهر وهم مصحون , ثم لا يشربونها حتى يصلوا العتمة وهي العشاء , ثم يشربونها حتى ينتصف الليل وينامون , ثم يقومون إلى صلاة الفجر وقد صحوا . فلم يزالوا بذلك يشربونها , حتى صنع سعد بن أبي وقاص طعاما فدعا ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم رجل من الأنصار , فشوى لهم رأس بعير ثم دعاهم عليه , فلما أكلوا وشربوا من الخمر سكروا وأخذوا في الحديث , فتكلم سعد بشيء , فغضب الأنصاري , فرفع لحي البعير فكسر أنف سعد , فأنزل الله نسخ الخمر وتحريمها وقال : { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام } إلى قوله : { فهل أنتم منتهون } 5 90 : 91 3310 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة , وعن رجل عن مجاهد في قوله : { يسألونك عن الخمر والميسر } قال : لما نزلت هذه الآية شربها بعض الناس وتركها بعض , حتى نزل تحريمها في سورة المائدة . 3311 - حدثنا محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : { قل فيهما إثم كبير } قال : هذا أول ما عيبت به الخمر . 3312 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد بن زريع , قال : ثنا سعيد , عن قتادة قوله : { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس } فذمهما الله ولم يحرمهما لما أراد أن يبلغ بهما من المدة والأجل , ثم أنزل الله في سورة النساء أشد منها : { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } 4 43 فكانوا يشربونها , حتى إذا حضرت الصلاة سكتوا عنها , فكان السكر عليهم حراما . ثم أنزل الله جل وعز في سورة المائدة بعد غزوة الأحزاب : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر } إلى : { لعلكم تفلحون } 5 90 : 91 فجاء تحريمها في هذه الآية قليلها وكثيرها , ما أسكر منها وما لم يسكر , وليس للعرب يومئذ عيش أعجب إليهم منها . 3313 - وحدثت عن عمار بن الحسن , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع قوله : { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما } قال : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن ربكم يقدم في تحريم الخمر " , قال : ثم نزلت : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } 4 43 قال النبي : وإن ربكم يقدم في تحريم الخمر " , قال : ثم نزلت : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه } 5 90 فحرمت الخمر عند ذلك . 3314 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد في قوله : { يسألونك عن الخمر والميسر } الآية كلها , قال : نسخت ثلاثة في سورة المائدة , وبالحد الذي حد النبي صلى الله عليه وسلم , وضرب النبي صلى الله عليه وسلم , قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يضربهم بذلك حدا , ولكنه كان يعمل في ذلك برأيه , ولم يكن حدا مسمى وهو حد . وقرأ : { إنما الخمر والميسر } 5 90 الآية .ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو
القول في تأويل قوله تعالى : { ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو } يعني جل ذكره بذلك : ويسألك يا محمد أصحابك : أي شيء ينفقون من أموالهم فيتصدقون به , فقل لهم يا محمد أنفقوا منها العفو . واختلف أهل التأويل في معنى : { العفو } في هذا الموضع , فقال بعضهم . معناه : الفضل . ذكر من قال ذلك : 3315 - حدثنا عمرو بن علي الباهلي , قال : ثنا وكيع ح , وحدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبي , عن ابن أبي ليلى , عن الحكم , عن مقسم , عن ابن عباس قال : العفو : ما فضل عن هلك . 3316 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : قل العفو : أي الفضل . * - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال , أخبرنا معمر , عن قتادة , قال : هو الفضل . 3317 - حدثني يعقوب بن إبراهيم , قال : ثنا هشيم , قال : أخبرنا عبد الملك , عن عطاء في قوله : العفو , قال : الفضل . 3318 - حدثنا موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو بن حماد , قال : ثنا أسباط , عن السدي , قال : العفو , يقول : الفضل . 3319 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد في قوله : { ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو } قال : كان القوم يعملون في كل يوم بما فيه , فإن فضل ذلك اليوم فضل عن العيال قدموه ولا يتركون عيالهم جوعا , ويتصدقون به على الناس . 3320 - حدثنا عمرو بن علي , قال : ثنا يزيد بن زريع , قال : ثنا يونس , عن الحسن في قوله : { ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو } قال : هو الفضل فضل المال . وقال آخرون : معنى ذلك ما كان عفوا لا يبين على من أنفقه أو تصدق به . ذكر من قال ذلك : 3321 - حدثني علي بن داود , قال : ثنا عبد الله بن صالح قال : ثني معاوية بن صالح , عن علي , عن ابن عباس : { ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو } يقول : ما لا يتبين في أموالكم . 3322 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , عن عيسى , عن ابن جريج , عن طاوس في قول الله جل وعز : { ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو } قال : اليسير من كل شيء . وقال آخرون : معنى ذلك : الوسط من النفقة ما لم يكن إسرافا ولا إقتارا . ذكر من قال ذلك : 3323 - حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع , قال : ثنا بشر بن المفضل , عن عوف , عن الحسن في قوله : { ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو } يقول : لا تجهد مالك حتى ينفد للناس . 3324 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج , قال : سألت عطاء , عن قوله : { يسألونك ماذا ينفقون قل العفو } قال : العفو في النفقة أن لا تجهد مالك حتى ينفد , فتسأل الناس 3325 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثنا حجاج عن ابن جريج , قال : سألت عطاء , عن قوله { يسألونك ماذا ينفقون قل العفو } قال : العفو : ما لم يسرفوا , ولم يقتروا في الحق , قال : وقال مجاهد : العفو صدقة عن ظهر غنى . * - حدثنا عمرو بن علي , قال : ثنا يحيى بن سعيد , قال : ثنا عوف , عن الحسن في قوله : { ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو } قال : هو أن لا تجهد مالك . وقال آخرون : معنى ذلك { قل العفو } خذ منهم ما أتوك به من شيء قليلا أو كثيرا . ذكر من قال ذلك : 3326 - حدثني محمد بن سعد , قال : ثني أبي , قال : ثني عمي , قال : ثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس : { ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو } يقول : ما أتوك به من شيء قليل أو كثير , فاقبله منهم . وقال آخرون : معنى ذلك ما طاب من أموالكم . ذكر من قال ذلك : 3327 - حدثت عن عمار , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع قوله : { يسألونك ماذا ينفقون قل العفو } قال : يقول الطيب منه , يقول : أفضل مالك وأطيبه . 3328 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن قتادة , قال : كان يقول : العفو : الفضل . يقول أفضل مالك . وقال آخرون : معنى ذلك الصدقة المفروضة . ذكر من قال ذلك : 3329 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , عن عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن قيس بن سعد , أو عيسى عن قيس , عن مجاهد - شك أبو عاصم - قول الله جل وعز : { قل العفو } قال : الصدقة المفروضة . وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : معنى العفو : الفضل من مال الرجل عن نفسه وأهله في مئونتهم وما لا بد لهم منه . وذلك هو الفضل الذي تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإذن في الصدقة , وصدقته في وجه البر . ذكر بعض الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك : 3330 - حدثنا علي بن مسلم , قال : ثنا أبو عاصم , عن ابن عجلان , عن المقبري , عن أبي هريرة , قال : قال رجل يا رسول الله عندي دينار ! قال : " أنفقه على نفسك ؟ " قال : عندي آخر ! قال : " أنفقه على أهلك ! " قال : عندي آخر ! قال : " أنفقه على ولدك ! " قال : عندي آخر ! قال : " فأنت أبصر " . 3331 - حدثني محمد بن معمر البحراني , قال : ثنا روح بن عبادة , قال : ثنا ابن جريج , قال أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا كان أحدكم فقيرا فليبدأ بنفسه , فإن كان لا فضل فليبدأ مع نفسه بمن يعول , ثم إن وجد فضلا بعد ذلك فليتصدق على غيرهم " . 3332 - حدثنا عمرو بن علي , قال : ثنا يزيد بن هارون , قال : ثنا محمد بن إسحاق , عن عاصم , عن عمر بن قتادة , عن محمود بن لبيد عن جابر بن عبد الله , قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل ببيضة من ذهب أصابها في بعض المعادن , فقال : يا رسول الله , خذ هذه مني صدقة , فوالله ما أصبحت أملك غيرها ! فأعرض عنه , فأتاه من ركنه الأيمن , فقال له مثل ذلك , فأعرض عنه . ثم قال له مثل ذلك فأعرض عنه . ثم قال له مثل ذلك , فقال : " هاتها ! " مغضبا , فأخذها فحذفه بها حذفة لو أصابه شجه أو عقره , ثم قال : " يجيء أحدكم بماله كله يتصدق به ويجلس يتكفف الناس ! إنما الصدقة عن ظهر غنى " . 3333 - حدثنا محمد بن المثنى , قال : ثنا محمد بن جعفر , قال : ثنا شعبة , عن إبراهيم المخرمي , قال : سمعت أبا الأحوص يحدث عن عبد الله , عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ارضخ من الفضل , وابدأ بمن تعول , ولا تلام على كفاف " . وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول باستقصاء ذكرها الكتاب . فإذا كان الذي أذن صلى الله عليه وسلم لأمته الصدقة من أموالهم بالفضل عن حاجة المتصدق الفضل من ذلك , هو العفو من مال الرجل ; إذ كان العفو في كلام العرب في المال وفي كل شيء هو الزيادة والكثرة , ومن ذلك قوله جل ثناؤه : { حتى عفوا } 7 95 بمعنى : زادوا على ما كانوا عليه من العدد وكثروا , ومنه قول الشاعر : ولكنا يعض السيف منا بأسوق عافيات الشحم كوم يعني به كثيرات الشحوم . ومن ذلك قيل للرجل : خذ ما عفا لك من فلان , يراد به : ما فضل فصفا لك عن جهده بما لم تجهده . كان بينا أن الذي أذن الله به في قوله { قل العفو } لعباده من النفقة , فأذنهم بإنفاقه إذا أرادوا إنفاقه هو الذي بين لأمته رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : " خير الصدقة ما أنفقت عن غنى " وأذنهم به . فإن قال لنا قائل : وما تنكر أن يكون ذلك العفو هو الصدقة المفروضة ؟ قيل : أنكرت ذلك لقيام الحجة على أن من حلت في ماله الزكاة المفروضة , فهلك جميع ماله إلا قدر الذي لزم ماله لأهل سهمان الصدقة , أن عليه أن يسلمه إليهم , إذا كان هلاك ماله بعد تفريطه في أداء الواجب كان لهم [ في ] ماله إليهم , وذلك لا شك أنه جهده إذا سلمه إليهم لا عفوه , وفي تسمية الله جل ثناؤه ما علم عباده وجه إنفاقهم من أموالهم عفوا , ما يبطل أن يكون مستحقا اسم جهد في حالة , وإذا كان ذلك كذلك فبين فساد قول من زعم أن معنى العفو هو ما أخرجه رب المال إلى إمامه , فأعطاه كائنا ما كان من قليل ماله وكثيره , وقول من زعم أنه الصدقة المفروضة . وكذلك أيضا لا وجه لقول من يقول : إن معناه ما لم يتبين في أموالكم , لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له أبو لبابة : إن من توبتي أن أنخلع إلى الله ورسوله من مالي صدقة , قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يكفيك من ذلك الثلث " وكذلك روي عن كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له نحوا من ذلك . والثلث لا شك أنه بين فقده من مال ذي المال , ولكنه عندي كما قال جل ثناؤه : { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما } 25 67 وكما قال جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا } 17 29 وذلك هو ما حده صلى الله عليه وسلم فيما دون ذلك على قدر المال واحتماله . ثم اختلف أهل العلم في هذه الآية : هل هي منسوخة , أم ثابتة الحكم على العباد ؟ فقال بعضهم : هي منسوخة نسختها الزكاة المفروضة . ذكر من قال ذلك : 3334 - حدثني علي بن داود , قال : ثنا عبد الله بن صالح , قال : ثني معاوية , عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس قوله : { يسألونك ماذا ينفقون قل العفو } قال : كان هذا قبل أن تفرض الصدقة . 3335 - حدثني محمد بن سعد , قال : ثني أبي , قال : ثني عمي , قال : أبي , عن أبيه , عن ابن عباس : { يسألونك ماذا ينفقون قل العفو } قال : لم تفرض فيه فريضة معلومة , ثم قال : { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } 7 199 ثم نزلت الفرائض بعد ذلك مسماة . 3336 - حدثني موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو بن حماد , قال : ثنا أسباط , عن السدي , قوله : { يسألونك ماذا ينفقون قل العفو } هذه نسختها الزكاة . وقال آخرون : بل مثبتة الحكم غير منسوخه . ذكر من قال ذلك : 3337 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم . قال : ثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن قيس بن سعد - أو عيسى , عن قيس . عن مجاهد ; شك أبو عاصم , قال - قال : العفو : الصدقة المفروضة . والصواب من القول في ذلك ما قاله ابن عباس على ما رواه عنه عطية من أن قوله : { قل العفو } ليس بإيجاب فرض فرض من الله حقا في ماله . ولكنه إعلام منه ما يرضيه من النفقة مما يسخطه جوابا معه لمن سأل نبيه محمدا عما فيه له رضا , فهو أدب من الله لجميع خلقه على ما أدبهم به في الصدقة غير المفروضات ثابت الحكم غير ناسخ لحكم كان قبله بخلافه , ولا منسوخ بحكم حدث بعده , فلا ينبغي لذي ورع ودين أن يتجاوز في صدقات التطوع وهباته وعطايا النفل وصدقته ما أدبهم به نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : " إذا كان عند أحدكم فضل فليبدأ بنفسه , ثم بأهله , ثم بولده " ثم يسلك حينئذ في الفضل مسالكه التي ترضي الله ويحبها . وذلك هو القوام بين الإسراف والإقتار الذي ذكره الله عز وجل في كتابه إن شاء الله تعالى . ويقال لمن زعم أن ذلك منسوخ : ما الدلالة على نسخه ؟ وقد أجمع الجميع لا خلاف بينهم على أن للرجل أن ينفق من ماله صدقة وهبة ووصية الثلث . فما الذي دل على أن ذلك منسوخ ؟ فإن زعم أنه يعني بقوله : إنه منسوخ أن إخراج العفو من المال غير لازم فرضا , وأن فرض ذلك ساقط بوجود الزكاة في المال ; قيل له : وما الدليل على أن إخراج العفو كان فرضا , فأسقطه فرض الزكاة ؟ ولا دلالة في الآية على أن ذلك كان فرضا , إذ لم يكن أمر من الله عز ذكره , بل فيها الدلالة على أنها جواب ما سأل عنه القوم على وجه التعرف لما فيه لله الرضا من الصدقات , ولا سبيل لمدعي ذلك إلى دلالة توجب صحة ما ادعى . وأما القراء فإنهم اختلفوا في قراءة العفو , فقرأته عامة قراء الحجاز وقراء الحرمين ومعظم قراء الكوفيين : { قل العفو } نصبا , وقرأه بعض قراء البصريين : " قل العفو " رفعا . فمن قرأه نصبا جعل " ماذا " حرفا واحدا , ونصبه بقوله : { ينفقون } على ما قد بينت قبل , ثم نصب العفو على ذلك ; فيكون معنى الكلام حينئذ : ويسألونك أي شيء ينفقون ؟ ومن قرأ رفعا جعل " ما " من صلة " ذا " ورفعوا العفو ; فيكون معنى الكلام حينئذ : ما الذي ينفقون , قل الذي ينفقون العفو . ولو نصب العفو , ثم جعل " ماذا " حرفين بمعنى يسألونك ماذا ينفقون ؟ قل ينفقون العفو , ورفع الذين جعلوا " ماذا " حرفا واحدا بمعنى . ما ينفقون ؟ قل الذي ينفقون ; خبرا كان صوابا صحيحا في العربية . وبأي القراءتين قرئ ذلك عندي صواب لتقارب معنييهما مع استفاضة القراءة بكل واحدة منهما . غير أن أعجب القراءتين إلي وإن كان الأمر كذلك قراءة من قرأه بالنصب , لأن من قرأ به من القراء أكثر وهو أعرف وأشهر .كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون
القول في تأويل قوله تعالى : { كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون } يعني بقول عز ذكره : { كذلك يبين الله لكم الآيات } هكذا يبين أي ما بينت لكم أعلامي وحججي , وهي آياته في هذه السورة , وعرفتكم فيها ما فيه خلاصكم من عقابي , وبينت لكم حدودي وفرائضي , ونبهتكم فيها على الأدلة على وحدانيتي , ثم على حجج رسولي إليكم , فأرشدتكم إلى ظهور الهدى , فكذلك أبين لكم في سائر كتابي الذي أنزلته على نبيي محمد صلى الله عليه وسلم آياتي وحججي , وأوضحها لكم لتتفكروا في وعدي ووعيدي وثوابي وعقابي , فتختاروا طاعتي التي تنالون بها ثوابي في الدار الآخرة , والفوز بنعيم الأبد على القليل من اللذات , واليسير من الشهوات , بركوب معصيتي في الدنيا الفانية التي من ركبها , كان معاده إلي , ومصيره إلى ما لا قبل له به من عقابي وعذابي . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 3338 - حدثنا علي بن داود , قال ثنا أبو صالح , قال : ثني معاوية بن صالح , عن علي , عن ابن عباس { كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة } قال : يعني في زوال الدنيا وفنائها , وإقبال الآخرة وبقائها . 3339 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله : { لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة } يقول : لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة فتعرفون فضل الآخرة على الدنيا . 3340 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج , عن ابن جريج قال : قوله : { كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة } قال : أما الدنيا فتعلمون أنها دار بلاء ثم فناء , والآخرة دار جزاء ثم بقاء , فتتفكرون , فتعملون للباقية منهما . قال : وسمعت أبا عاصم يذكر نحو هذا أيضا . 3341 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة قوله : { كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة } وإنه من تفكر فيهما عرف فضل إحداهما على الأخرى وعرف أن الدنيا دار بلاء ثم دار فناء , وأن الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء , فكونوا ممن يصرم حاجة الدنيا لحاجة الآخرة .