تفسير الطبري
تفسير الآية رقم 262 من سورة البقرة
القول في تأويل قوله : الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: المعطيَ ماله المجاهدين في سبيل الله معونةً لهم على جهاد أعداء الله. يقول تعالى ذكره: الذين يعينون المجاهدين في سبيل الله بالإنفاق عليهم وفي حَمُولاتهم, وغير ذلك من مؤنهم, (71) . ثم لم يتْبع نفقته التي أنفقها عليهم منًّا عليهم بإنفاق ذلك عليهم، ولا أذى لهم. فامتنانه به عليهم، بأن يظهر لهم أنه قد اصطنع إليهم -بفعله وعطائه الذي أعطاهموه تقوية لهم على جهاد عدوهم- معروفا, ويبدي ذلك إما بلسان أو فعل. وأما " الأذى " فهو شكايته إياهم بسبب ما أعطاهم وقوّاهم من النفقة في سبيل الله، أنهم لم يقوموا بالواجب عليهم في الجهاد, وما أشبه ذلك من القول الذي يؤذي به من أنفَق عليه.
وإنما شَرَط ذلك في المنفق في سبيل الله, وأوجبَ الأجر لمن كان غير مانٍّ ولا مؤذٍ مَن أنفق عليه في سبيل الله, لأن النفقة التي هي في سبيل الله: ما ابتغي به وجه الله وطلب به ما عنده. (72) . فإذا كان معنى النفقة في سبيل الله هو ما وصفنا, فلا وجه لمنّ المنفق على من أنفق عليه, لأنه لا يدَ له قِبَله ولا صَنيعة يستحق بها عليه -إن لم يكافئه- عليها المنَّ والأذى, إذ كانت نفقته ما أنفق عليه احتسابًا وابتغاءَ ثواب الله وطلبَ مرضاته، وعلى الله مثوبته، دون من أنفق ذلك عليه.
* * *
وبنحو المعنى الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
6034 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم )، (73) . علم الله أن أناسًا يمنون بعطيَّتهم, فكره ذلك وقدَّم فيه فقال: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ . (74) .
6035 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: قال للآخرين = يعني: قال الله للآخرين, وهم الذين لا يخرجون في جهاد عدوهم =: ( الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذى )، قال: فشرَط عليهم. قال: والخارجُ لم يشرُط عليه قليلا ولا كثيرًا - يعني بالخارج، الخارجَ في الجهاد الذي ذكر الله في قوله: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ الآية = قال ابن زيد: وكان أبي يقول: إن آذاك من يعطي من هذا شيئًا أو يقوِّي فقويت في سبيل الله, (75) . فظننتَ أنه يثقل عليه سلامُك، فكفَّ سلامَك عنه. قال ابن زيد: فنهى عن خير الإسلام. (76) . قال: وقالت امرأة لأبي: يا أبا أسامة, تدلُّني على رجل يخرج في سبيل الله حقًّا, فإنهم لا يخرجون إلا ليأكلوا الفواكه!! عندي جعبة وأسهُمٌ فيها. (77) . فقال لها: لا بارك الله لك في جعبتك, ولا في أسهمك, فقد آذيتيهم قبل أن تعطيهم! قال: وكان رجل يقول لهم: اخرجوا وكلوا الفواكه!
6036 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك قوله: ( لا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذى ) قال: أن لا ينفق الرجل ماله، خيرٌ من أن ينفقه ثم يتبعه منًّا وأذى.
* * *
وأما قوله: ( لهم أجرهم عند ربهم )، فإنه يعني للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله على ما بيَّنَ. و " الهاء والميم " في" لهم " عائدة على " الذين ".
* * *
ومعنى قوله: ( لهم أجرهم عند ربهم )، لهم ثوابهم وجزاؤهم على نفقتهم التي أنفقوها في سبيل الله, ثم لم يتبعوها منًّا ولا أذى. (78) .
* * *
وقوله: ( ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون )، (79) . يقول: وهم = مع ما لهم من الجزاء والثواب على نفقتهم التي أنفقوها على ما شرطنا =( لا خوف عليهم ) عند مقدمهم على الله وفراقهم الدنيا, ولا في أهوال القيامة, وأن ينالهم من مكارهها أو يصيبهم فيها من عقاب الله =( ولا هم يحزنون ) على ما خلفوا وراءهم في الدنيا. (80) .
---------------
الهوامش :
(71) في المخطوطة والمطبوعة : "الذين يعينون المجاهدين" بالجمع/ وسياق الجمل بعده بالإفراد ، وهو غير جائز .
(72) في المطبوعة : "مما ابتغى به" ، والصواب ما في المخطوطة .
(73) أتم الآية في المطبوعة ، وأثبت ما في المخطوطة .
(74) في المخطوطة : "قول معروف ومعرفة" ، وهو دال على كثرة سهو الناسخ في هذا الموضع من المخطوطة كما أسلفت مرارًا .
(75) في المطبوعة : "إن أذن لك أن تعطي من هذا شيئًا أو تقوى فقويت في سبيل الله" وهو غير مفهوم ، وهو تصرف فيما كان في المخطوطة ، ونصه : "إن أذن لك أن تعطي من هذا شيئًا أو تقوى في سبيل الله" . واستظهرت صواب قراءتها كما أثبته ، وقد أشرت مرارًا لكثرة سهو الناسخ في هذا من كتابته . والذي أثبته أشبه بما دل عليه سائر قوله .
(76) في المطبوعة : "فهو خير من السلام" ، ولا معنى له وفي المخطوطة"فنهي خير من الإسلام" وهو أيضًا بلا معنى ، وأظن الصواب ما أثبت . وذلك أن زيد بن أسلم قال : "فكف عنه سلامك" فنهاه عن أن يلقي عليه السلام . فعلق ابنه ابن زيد على قول أبيه أنه : "نهى عن خير الإسلام" ، إشارة إلى ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص : "أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الإسلام خير؟ قال : تطعم الطعام ، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف" فالسلام خير الإسلام ، وهو ما نهى عنه ابن زيد من أوذي .
(77) أخشى أن يكون الناسخ سها كما سها فيما سلف ، وأن يكون صوابها"وفيها أسهم" ، والذي هنا مقبول .
(78) انظر معنى"أجر" فيما سلف 2 : 148 ، 513 .
(79) انظر تفسير : "ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" فيما سلف 2 : 148 ، 513 .
(80) عند هذا الموضع انتهى المجلد الرابع من مخطوطتنا ، وفي آخره ما نصه :
"آخر المجلد الرابع من كتاب البيان يتلوه في الخامس إن شاء الله تعالى ، القول في تأويل قوله : "قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم"
وكان الفراغ منه في شهر ذي الحجة سنة أربع عشرة وسبعمائة والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا"