تفسير الطبري
تفسير الآية رقم 80 من سورة البقرة
القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (وقالوا)، اليهود, يقول: وقالت اليهود: (لن تمسنا النار)، يعني لن تلاقي أجسامنا النار ولن ندخلها،" إلا أياما معدودة ". وإنما قيل " معدودة " وإن لم يكن مبينا عددها في التنـزيل، لأن الله جل ثناؤه أخبر عنهم بذلك وهم عارفون عدد الأيام، التي يوقتونها لمكثهم في النار. فلذلك ترك ذكر تسمية عدد تلك الأيام، وسماها " معدودة " لما وصفنا.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في مبلغ الأيام المعدودة التي عينها اليهود، القائلون ما أخبر الله عنهم من ذلك .
* فقال بعضهم بما:-
1399 - حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة)، قال ذلك أعداء الله اليهود, قالوا: لن يدخلنا الله النار إلا تحلة القسم، الأيام التي أصبنا فيها العجل: أربعين يوما, فإذا انقضت عنا تلك الأيام, انقطع عنا العذاب والقسم.
1400 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة)، قالوا: أياما معدودة بما أصبنا في العجل.
1401 - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة)، قال: قالت اليهود: إن الله يدخلنا النار فنمكث فيها أربعين ليلة, حتى إذا أكلت النار خطايانا واستنقتنا, (33) نادى مناد: أخرجوا كل مختون من ولد بني إسرائيل. فلذلك أمرنا أن نختتن. قالوا: فلا يدعون منا في النار أحدا إلا أخرجوه.
1402 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية قال: قالت اليهود: إن ربنا عتب علينا في أمرنا, فأقسم ليعذبنا أربعين ليلة, ثم يخرجنا. فأكذبهم الله.
1403 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن قتادة قال: قالت اليهود: لن ندخل النار إلا تحلة القسم, عدد الأيام التي عبدنا فيها العجل.
1404 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) الآية، قال ابن عباس: ذكر أن اليهود وجدوا في التوراة مكتوبا، أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة، إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم نابتة في أصل الجحيم - وكان ابن عباس يقول: إن الجحيم سقر, وفيه شجرة الزقوم - فزعم أعداء الله، أنه إذا خلا العدد الذي وجدوا في كتابهم أياما معدودة - وإنما يعني بذلك المسير الذي ينتهي إلى أصل الجحيم - فقالوا: إذا خلا العدد انتهى الأجل. فلا عذاب، وتذهب جهنم وتهلك. (34) فذلك قوله: (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة)، يعنون بذلك الأجل. فقال ابن عباس: لما اقتحموا من باب جهنم، ساروا في العذاب حتى انتهوا إلى شجرة الزقوم آخر يوم من الأيام المعدودة, قال لهم خزان سقر: زعمتم أنكم لن تمسكم النار إلا أياما معدودة! فقد خلا العدد وأنتم في الأبد! فأخذ بهم في الصَّعود في جهنم يرهقون. (35)
1405 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة)، إلا أربعين ليلة.
1406 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر, عن الحكم بن أبان, عن عكرمة قال: خاصمت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لن ندخل النار إلا أربعين ليلة, وسيخلفنا فيها قوم آخرون - يعنون محمدا وأصحابه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على رءوسهم (36) " بل أنتم فيها خالدون، لا يخلفكم فيها أحد " . فأنـزل الله جل ثناؤه: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة).
1407 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج قال، أخبرني الحكم بن أبان, عن عكرمة، قال: اجتمعت يهود يوما تخاصم النبي صلى الله عليه وسلم. فقالوا: (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة)، - وسموا أربعين يوما - ثم يخلفنا، أو يلحقنا، فيها أناس. فأشاروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كذبتم, بل أنتم فيها خالدون مخلدون، لا نلحقكم ولا نخلفكم فيها إن شاء الله أبدا ". (37)
1408 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا علي بن معبد, عن أبي معاوية, عن جويبر, عن الضحاك في قوله: (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة)، قال: قالت اليهود: لا نعذب في النار يوم القيامة إلا أربعين يوما مقدار ما عبدنا العجل.
1409 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: حدثني أبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: " أنشدكم بالله وبالتوراة التي أنـزلها الله على موسى يوم طور سيناء, مَن أهل النار الذين أنـزلهم الله في التوراة؟ وقالوا: إن ربهم غضب عليهم غضبة, فنمكث في النار أربعين ليلة, ثم نخرج فتخلفوننا فيها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبتم والله، لا نخلفكم فيها أبدا ". فنـزل القرآن تصديقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم وتكذيبا لهم: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا) إلى قوله: هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ . (38)
* * *
وقال آخرون في ذلك بما:-
1410 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة, عن ابن عباس قال: كانت يهود يقولون: إنما مدة الدنيا سبعة آلاف سنة, وإنما يعذب الله الناس يوم القيامة بكل ألف سنة من أيام الدنيا يوما واحدا من أيام الآخرة, وإنها سبعة أيام. فأنـزل الله في ذلك من قولهم: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) الآية.
1411 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن سعيد بن جبير أو عكرمة, عن ابن عباس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ويهود تقول: إنما مدة الدنيا سبعة آلاف سنة, وإنما يعذب الناس في النار بكل ألف سنة من أيام الدنيا، يوما واحدا في النار من أيام الآخرة, فإنما هي سبعة أيام، ثم ينقطع العذاب. فأنـزل الله عز وجل في ذلك من قولهم: (لن تمسنا النار) الآية.
1412 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: (قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة)، قال: كانت تقول: إنما الدنيا سبعة آلاف سنة, وإنما نعذب مكان كل ألف سنة يوما.
1413 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله - إلا أنه قال: كانت اليهود تقول: إنما الدنيا, وسائر الحديث مثله.
1414 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج, قال مجاهد: وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة من الدهر. وسموا عدة سبعة آلاف سنة, من كل ألف سنة يوما. يهود تقوله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (80)
قال أبو جعفر: لما قالت اليهود ما قالت من قولها: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً - على ما قد بينا من تأويل ذلك - قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد، لمعشر اليهود: (أتخذتم عند الله عهدا): أأخذتم بما تقولون من ذلك من الله ميثاقا، فالله لا ينقض ميثاقه، ولا يبدل وعده وعقده, أم تقولون على الله الباطل جهلا وجراءة عليه؟ كما:-
1415 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: (قل أتخذتم عند الله عهدا) أي: موثقا من الله بذلك أنه كما تقولون.
1416 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.
1417 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن قتادة قال: قالت اليهود: لن ندخل النار إلا تحلة القسم، عدة الأيام التي عبدنا فيها العجل، فقال الله: (أتخذتم عند الله عهدا)، بهذا الذي تقولونه؟ ألكم بهذا حجة وبرهان؟ فلن يخلف الله عهده، فهاتوا حجتكم وبرهانكم، أم تقولون على الله ما لا تعلمون؟
1418 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس قال: لما قالت اليهود ما قالت, قال الله جل ثناؤه لمحمد، قل : ( أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا ) ، يقول: أدخرتم عند الله عهدا؟ يقول: أقلتم لا إله إلا الله لم تشركوا ولم تكفروا به؟ فإن كنتم قلتموها فارجوا بها, وإن كنتم لم تقولوها، فلم تقولون على الله ما لا تعلمون؟ يقول: لو كنتم قلتم لا إله إلا الله ولم تشركوا به شيئا, ثم متم على ذلك، لكان لكم ذخرا عندي, ولم أخلف وعدي لكم: أني أجازيكم بها.
1419 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط عن السدي قال: لما قالت اليهود ما قالت, قال الله عز وجل: (قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده)- وقال في مكان آخر: وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ . [ آل عمران: 24]، ثم أخبر الخبر فقال: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً .
* * *
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي رويناها عن ابن عباس ومجاهد وقتادة، بنحو ما قلنا في تأويل قوله: ( قل أتخذتم عند الله عهدا). لأن مما أعطاه الله عباده من ميثاقه: أن من آمن به وأطاع أمره، نجاه من ناره يوم القيامة. ومن الإيمان به، الإقرار بأن لا إله إلا الله. وكذلك من ميثاقه الذي واثقهم به: أن من أتى الله يوم القيامة بحجة تكون له نجاة من النار، فينجيه منها. وكل ذلك، وإن اختلفت ألفاظ قائليه, فمتفق المعاني، على ما قلنا فيه. والله تعالى أعلم.
---------------
الهوامش :
(33) نقيت الثوب (بتشديد القاف) وأنقيته نقاء فهو نقي : نظيف . و"استنقيته" ليست في المعاجم ، ولكنها صحيحة البناء والمعنى .
(34) خلا يخلو : مضى وذهب وانقضى .
(35) الصعود : مشقة العذاب ، ولكنه أراد هنا ما قالوا : جبل في جهنم من جمرة واحدة ، يكلف الكافر ارتقاءه ، ويضرب بالمقامع ، فكلما وضع عليه رجله ذابت إلى أسفل دركة ، ثم تعود مكانها صحيحة ، والله أعلم .
(36) قال بيده : أشار . وقد مضى مثل ذلك مرارا .
(37) الحديثان : 1406 ، 1407 - هما حديث واحد بإسنادين . ونسبه السيوطي أيضًا 1 : 84 ، لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم . وهو حديث مرسل ، لا تقوم به حجة .
(38) الحديث : 1409 - هو حديث مرسل أيضًا .