تفسير الطبري
تفسير الآية رقم 40 من سورة طه
القول في تأويل قوله تعالى : إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)
وقوله ( إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ ) يقول تعالى ذكره: حين تمشي أختك تتبعك حتى وجدتك، ثم تأتي من يطلب المراضع لك، فتقول: هل أدلكم على من يكفله؟ وحذف من الكلام ما ذكرت بعد قوله ( إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ ) استغناء بدلالة الكلام عليه.
وإنما قالت أخت موسى ذلك لهم لِما حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: لما ألقته أمه في اليم ( قَالَتْ لِأخْتِهِ قُصِّيهِ) فلما التقطه آل فرعون، وأرادوا له المرضعات، فلم يأخذ من أحد من &; 18-305 &; النساء، وجعل النساء يطلبن ذلك لينـزلن عند فرعون في الرضاع، فأبى أن يأخذ، فقالت أخته: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ؟ فأخذوها وقالوا: بل قد عرفت هذا الغلام، فدلينا على أهله، قالت: ما أعرفه، ولكن إنما قلت هم للملك ناصحون.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: قالت، يعني أم موسى لأخته: قصيه فانظري ماذا يفعلون به، فخرجت في ذلك فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ وقد احتاج إلى الرضاع والتمس الثدي، وجمعوا له المراضع حين ألقى الله محبتهم عليه، فلا يؤتى بامرأة، فيقبل ثديها، فيرمضهم ذلك، فيؤتى بمرضع بعد مرضع، فلا يقبل شيئا منهم، فقالت لهم أخته حين رأت من وجدهم به وحرصهم عليه هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ أي لمنـزلته عندكم وحرصكم على مسرّة الملك ، وعنى بقوله: ( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ ) هل أدلكم على من يضمه إليه فيحفظه ويرضعه ويربيه، وقيل: معنى وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ضمها.
وقوله ( فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ ) يقول تعالى ذكره: فرددناك إلى أمك بعد ما صرت في أيدي آل فرعون، كيما تقرّ عينها بسلامتك ونجاتك من القتل والغرق في اليم، وكيلا تحزن عليك من الخوف من فرعون عليك أن يقتلك.
كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما قالت أخت موسى لهم ما قالت، قالوا: هات، فأتت أمه فأخبرتها، فانطلقت معها حتى أتتهم، فناولوها إياه، فلما وضعته في حجرها أخذ ثديها، وسرّوا بذلك منه، وردّه الله إلى أمه كي تقرّ عينها، ولا تحزن، فبلغ لطف الله لها وله، أن ردّ عليها ولدها وعطف عليها نفع فرعون وأهل بيته مع الأمنة من القتل الذي يتخوف على غيره، فكأنهم كانوا من أهل بيت فرعون في الأمان والسعة، فكان على فرش فرعون وسرره.
وقوله ( وَقَتَلْتَ نَفْسًا ) يعني جلّ ثناؤه بذلك: قتله القبطي الذي قتله حين استغاثه عليه الإسرائيلي، فوكزه موسى. وقوله ( فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ ) يقول تعالى ذكره: فنجيناك من غمك بقتلك النفس التي قتلت، إذ أرادوا أن يقتلوك &; 18-306 &; بها فخلصناك منهم، حتى هربت إلى أهل مدين، فلم يصلوا إلى قتلك وقودك.
وكان قتله إياه فيما ذُكر خطأ، كما حدثني واصل بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن فضيل، عن أبيه، عن سالم، عن عبد الله بن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنَّما قَتَلَ مُوسَى الَّذي قَتَلَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ خَطَأ، فقال الله له ( وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا )".
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، ومحمد بن عمرو، قالا ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ ) قال: من قتل النفس.
حدثنا بِشْر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ ) النفس التي قتل.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله ( وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ) فقال بعضهم: ابتليناك ابتلاء واختبرناك اختبارا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ) يقول: اختبرناك اختبارا.
حدثني محمّد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، ( وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ) قال: ابتليت بلاء.
حدثني العباس بن الوليد الآملي، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا أصبغ بن زيد الجهني، قال: أخبرنا القاسم بن أيوب، قال: ثني سعيد بن جبير، قال: سألت عبد الله بن عباس، عن قول الله لموسى ( وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ) فسألته على الفتون ما هي؟ فقال لي: استأنف النهار يا بن جبير، فإن لها حديثا طويلا قال: فلما أصبحت غدوت على ابن عباس لأنتجز منه ما وعدني، قال: فقال ابن عباس: تذاكر فرعون وجلساؤه ما وعد الله إبراهيم أن يجعل في ذرّيته أنبياء وملوكا، فقال بعضهم: إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك وما يشكون، ولقد كانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب; فلما هلك قالوا: ليس هكذا كان الله وعد إبراهيم، فقال فرعون: فكيف ترون؟ قال: فأتمروا بينهم، وأجمعوا أمرهم على &; 18-307 &; أن يبعث رجالا معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل، فلا يجدون مولودًا ذكرًا إلا ذبحوه; فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم، وأن الصغار يذبحون، قالوا: يوشك أن تفنوا بني إسرائيل، فتصيرون إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي كانوا يكفونكم، فاقتلوا عاما كلّ مولود ذكر، فيقل أبناؤهم، ودعوا عاما لا تقتلوا منهم أحدا، فتشبّ الصغار مكان من يموت من الكبار، فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم، فتخافون مكاثرتهم إياكم، ولن يقلوا بمن تقتلون، فأجمعوا أمرهم على ذلك.
فحملت أمّ موسى بهارون في العام المقبل الذي لا يذبح فيه الغلمان، فولدته علانية آمنة، حتى إذا كان العام المقبل حملت بموسى، فوقع في قلبها الهمّ والحزن، وذلك من الفتون يا ابن جبير، مما دخل عليه في بطن أمه مما يراد به، فأوحى الله إليها وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ وأمرها إذا ولدته أن تجعله في تابوت ثم تلقيه في اليم، فلما ولدته فعلت ما أمرت به، حتى إذا توارى عنها ابنها أتاها إبليس، فقالت في نفسها: ما صنعت بابني لو ذبح عندي، فواريته وكفنته كان أحب إلي من أن ألقيه بيدي إلى حيتان البحر ودوابه، فانطلق به الماء حتى أوفى به عند فرضة مستقى جواري آل فرعون، فرأينه فأخذنه، فهممن أن يفتحن الباب، فقال بعضهن لبعض: إن في هذا مالا وإنا إن فتحناه لم تصدّقنا امرأة فرعون بما وجدنا فيه، فحملنه كهيئته لم يحرّكن منه شيئا، حتى دفعنه إليها; فلما فتحته رأت فيه الغلام، فألقي عليه منها محبة لم يلق مثلها منها على أحد من الناس وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا من كلّ شيء إلا من ذكر موسى ، فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا إلى امرأة فرعون بشفارهم، يريدون أن يذبحوه، وذلك من الفتون يا ابن جُبير، فقالت للذباحين: انصرفوا عني، فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل، فآتي فرعون فأستوهبه إياه، فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم، وإن أمر بذبحه لم ألمكم، فلما أتت به فرعون قالت قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ قال فرعون: يكون لك، وأما أنا فلا حاجة لي فيه، فقال: والذي يحلف به لو أقرّ فرعون أن يكون له قرة عين كما أقرت به، لهداه الله به كما هدى به امرأته، ولكن الله حرمه ذلك، فأرسلت إلى من حولها من كلّ أنثى لها لبن، لتختار له ظئرا، فجعل كلما أخذته امرأة منهم لترضعه لم يقبل ثديها، حتى &; 18-308 &; أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت، فحزنها ذلك، فأمرت به فأخرج إلى السوق مجمع الناس ترجو أن تصيب له ظئرا يأخذ منها، فلم يقبل من أحد ، وأصبحت أمّ موسى، فقالت لأخته: قصيه واطلبيه، هل تسمعين له ذكرا، أحي ابني، أو قد أكلته دواب البحر وحيتانه؟ ونسيت الذي كان الله وعدها، فبصرت به أخته عن جنب وهم لا يشعرون، فقالت من الفرح حين أعياهم الظؤورات: أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون، فأخذوها وقالوا: وما يدريك ما نصحهم له، هل يعرفونه حتى شكوا في ذلك، وذلك من الفتون &; 18-309 &; يا ابن جُبير، فقالت: نصحهم له وشفقتهم عليه، رغبتهم في ظؤورة الملك، ورجاء منفعته، فتركوها، فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر، فجاءت، فلما وضعته في حجرها نـزا إلى ثديها حتى امتلأ جنباه، فانطلق البُشراء إلى امرأة فرعون يبشرونها أن قد وجدنا لابنك ظئرا، فأرسلت إليها، فأتيت بها وبه، فلما رأت ما يصنع بها قالت: امكثي عندي حتى ترضعي ابني هذا فإني لم أحبّ حبه شيئا قطّ ، قال: فقالت: لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي، فيضيع، فإن طابت نفسك أن تعطينيه، فأذهب به إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيرا فعلت، وإلا فإني غير تاركة بيتي وولدي، وذكرت أمّ موسى ما كان الله وعدها، فتعاسرت على امرأة فرعون، وأيقنت أن الله تبارك وتعالى منجز وعده، فرجعت بابنها إلى بيتها من يومها، فأنبته الله نباتا حسنا، وحفظه لما قضى فيه، فلم يزل بنو إسرائيل وهم مجتمعون في ناحية المدينة يمتنعون به من الظلم والسخرة التي كانت فيهم.
فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأمّ موسى: أزيريني ابني فوعدتها يوما تزيرها إياه فيه، فقالت لخواصها وظؤورتها وقهارمتها: لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابني بهدية وكرامة ليرى ذلك، وأنا باعثة أمينة تحصي كل ما يصنع كلّ إنسان منكم ، فلم تزل الهدية والكرامة والتحف تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون، فلما دخل عليها نحلته وأكرمته، وفرحت به، وأعجبها ما رأت من حُسن أثرها عليه، وقالت: انطلقن به إلى فرعون، فلينحله، وليكرمه ، فلما دخلوا به عليه جعلته في حجره، فتناول موسى لحية فرعون حتى مدّها، فقال عدوّ من أعداء الله: ألا ترى ما وعد الله إبراهيم أنه سيصرعك ويعلوك، فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه وذلك من الفتون يا بن جُبَير، بعد كلّ بلاء ابتلي به وأريد به، فجاءت امرأة فرعون تسعى إلى فرعون، فقالت: ما بدا لك في هذا الصبيّ الذي قد وهبته لي؟ قال: ألا ترين يزعم أنه سيصرعني ويعلوني، فقالت: اجعل بيني وبينك أمرا تعرف فيه الحق، ائت بجمرتين ولؤلؤتين، فقرّبهنّ إليه، فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين علمت أنه يعقل، وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين، فاعلم أن أحدا لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل، فقرّب ذلك إليه، فتناول الجمرتين، فنـزعوهما منه مخافة أن تحرقا يده، فقالت المرأة: ألا ترى؟ فصرفه الله عنه بعد ما قد همّ به، وكان الله بالغا فيه أمره.
فلما بلغ أشدّه، وكان من الرجال، لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة، حتى امتنعوا كلّ امتناع، فبينما هو يمشي ذات يوم في ناحية المدينة، إذ هو برجلين يقتتلان، أحدهما من بني إسرائيل، والآخر من آل فرعون، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فغضب موسى واشتدّ غضبه، لأنه تناوله وهو يعلم منـزلة موسى من بني إسرائيل، وحفظه لهم، ولا يعلم الناس إلا أنما ذلك من قِبَل الرضاعة غير أمّ موسى، إلا أن يكون الله أطلع موسى من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره; فوكز موسى الفرعوني فقتله، وليس يراهما أحد إلا الله والإسرائيلي، فقال موسى حين قتل الرجل: ( هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) ثُمَّ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ الأخبار، فأتى فرعون، فقيل له: إن بني إسرائيل قد قتلوا رجلا من آل فرعون، فخُذ لنا بحقنا ولا ترخص لهم في ذلك، فقال: ابغوني قاتله ومن يشهد عليه، لأنه لا يستقيم أن يقضي بغير بيِّنة ولا ثبت، فطلبوا له ذلك; فبينما هم يطوفون لا يجدون ثَبَتا، إذ مرّ موسى من الغد، فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونيا، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فصادف موسى وقد ندم على ما كان منه بالأمس وكره الذي رأى، فغضب موسى، فمدّ يده وهو يريد أن يبطش بالفرعوني، قال للإسرائيلي لما فعل بالأمس واليوم إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ فنظر الإسرائيلي موسى بعد ما قال، فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس الذي قتل فيه &; 18-310 &; الفرعوني، فخاف أن يكون بعد ما قال له إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ أن يكون إياه أراد، ولم يكن أراده، وإنما أراد الفرعوني، فخاف الإسرائيلي، فحاجز الفرعوني فقال يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ وإنما قال ذلك مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله، فتتاركا; فانطلق الفرعوني إلى قومه، فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر حين يقول: أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسًا بالأمس؟ فأرسل فرعون الذباحين، فسلك موسى الطريق الأعظم، فطلبوه وهم لا يخافون أن يفوتهم. وجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة، فاختصر طريقًا قريبًا حتى سبقهم إلى موسى، فأخبره الخبر، وذلك من الفتون يا بن جُبير.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (فُتُونًا) قال: بلاء، إلقاؤه في التابوت، ثم في البحر، ثم التقاط آل فرعون إياه، ثم خروجه خائفا.
قال محمد بن عمرو، وقال أبو عاصم: خائفا، أو جائعا " شكّ أبو عاصم "، وقال الحارث: خائفا يترقب، ولم يشك.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله وقال: خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ، ولم يشك.
حدثنا بِشْر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ) يقول: ابتليناك بلاء.
حُدِثت عن الحسين، قال: سمعت أبا مُعاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ) هو البلاء على إثر البلاء.
وقال آخرون: معنى ذلك: أخلصناك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ) أخلصناك إخلاصا.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن يعلى بن مسلم، قال: سمعت سعيد بن جُبير، يفسِّر هذا الحرف ( وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ) قال: أخلصناك إخلاصا.
&; 18-311 &;
قال أبو جعفر: وقد بيَّنا فيما مضى من كتابنا هذا معنى الفتنة، وأنها الابتلاء والاختبار بالأدلة المُغنية عن الإعادة في هذا الموضع.
وقوله ( فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ) وهذا الكلام قد حذف منه بعض ما به تمامه اكتفاء بدلالة ما ذكر عما حذف. ومعنى الكلام: وفتناك فتونا، فخرجت خائفا إلى أهل مدين، فلبثت سنين فيهم.
وقوله ( ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ) يقول جلّ ثناؤه: ثم جئت للوقت الذي أردنا إرسالك إلى فرعون رسولا ولمقداره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ) يقول: لقد جئت لميقات يا موسى.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن مجاهد، قال ( عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ) قال: موعد.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قال: علي ذي موعد.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: ( عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ) قال: قدر الرسالة والنبوّة ، والعرب تقول: جاء فلان على قدر: إذا جاء لميقات الحاجة إليه; ومنه قول الشاعر:
نـالَ الخِلافَـةَ أوْ كـانَتْ لَـهُ قَـدَرا
كَمَـا أَتـى رَبَّـهُ مُوسَـى عَـلى قَدَرِ (1)
---------------
الهوامش:
(1) هذا البيت لجرير ، من قصيدة عدة تسعة وعشرون بيتا في ديوانه ( طبعة الصاوي بالقاهرة 274 - 276 ) والرواية فيه : " نال الخلافة " كرواية المؤلف ، وفي بعض كتب الشواهد : " جاء الخلافة " . وفي هامش الديوان : ويروى : " عز الخلافة " البيت . ومحل الشاهد في البيت ، قوله : " على قدر " فإن معناه : القضاء الموافق . قال في ( اللسان : قدر ) : يقال : قدر الإله كذا تقديرا ؛ وإذا وافق الشيء الشيء قلت : جاء قدره ، وقال ابن سيده : القدر والقدر ( بسكون الدال وتحريكها ) : القضاء والحكم ، وهو ما يقدره الله عز وجل من القضاء ، ويحكم به من الأمور .