تفسير الطبري
تفسير الآية رقم 28 من سورة القصص
القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
يقول تعالى ذكره: (قَالَ) موسى لأبي المرأتين ( ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ ) أي هذا الذي قلتَ من أنك تزوّجني أحدى ابنتيك على أن آجرك ثماني حجَج, واجب بيني وبينك, على كل واحد منا الوفاء لصاحبه بما أوجب له على نفسه.
وقوله: ( أَيَّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ ) يقول: أيّ الأجلين من الثماني الحجج والعشر الحجَج قضيت, يقول: فرغت منها فوفيتكها رعي غنمك وماشيتك ( فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ ) يقول: فليس لك أن تعتدي عليّ, فتطالبني بأكثر منه, و " ما " في قوله: ( أَيَّمَا الأجَلَيْنِ ) صلة يوصل بها أي على الدوام (9) وزعم أهل العربية أن هذا أكثر في كلام العرب من أيّ, وأنشد قول الشاعر:
وَأَيُّهُمَـــا مَــا أَتَبَعَــنَّ فَــإِنَّنِي
حَـرِيصٌ عَـلَى أَثَـرِ الَّـذِي أَنَـا تَابِعُ (10)
وقال عباس بن مرداس:
فَــأَيِّي مَــا وَأَيُّــكَ كَـانَ شَـرًّا
فَقِيــدَ إلــى المَقَامَــةِ لا يَرَاهَــا (11)
وقوله: ( وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ) كان ابن إسحاق يرى هذا القول من أبي المرأتين.
حدثنا ابن حميد, قال: ثنا سلمة, عن ابن إسحاق, قال: قال موسى ( ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ ) قَالَ : نَعَمْ ( وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ) فزوّجه, وأقام معه يكفيه, ويعمل له في رعاية غنمه, وما يحتاج إليه منه.
وزوجة موسى صَفُّورا أو أختها شرفا أو ليَّا:
حدثنا موسى, قال: ثنا عمرو, قال: ثنا أسباط, عن السدي, قال: قال ابن عباس; الجارية التي دعته هي التي تزوّج.
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, قال له إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ... إلى آخر الآية, قال: وأيتهما تريد أن تنكحني؟ قال: التي دعتك, قال: ألا وهي بريئة مما دخل نفسك عليها, فقال: هي عندك كذلك, فزوّجه.
وبنحو الذي قلنا في قوله: ( أَيَّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا موسى, قال: ثنا عمرو, قال: ثنا أسباط, عن السدي: ( قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ ) إما ثمانيا, وإما عشرًا.
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني ابن لهيعة, عن عمارة بن غزية, عن يحيى بن سعيد, عن القاسم بن محمد, وسأله رجل قال ( أَيَّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ ) قال: فقال القاسم: ما أبالي أيّ ذلك كان, إنما هو موعد وقضاء.
وقوله: ( وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ) يقول: والله على ما أوجب كلّ واحد منا لصاحبه على نفسه بهذا القول, شهيد وحفيظ.
كالذي حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد: ( وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ) قال: شهيد على قول موسى وخَتَنه.
وذكر أن موسى وصاحبه لما تعاقدا بينهما هذا العقد, أمر إحدى ابنتيه أن تعطي موسى عصًا من العِصِيّ التي تكون مع الرعاة, فأعطته إياه, فذكر بعضهم أنها العصا التي جعلها الله له آية.
وقال بعضهم تلك عصا أعطاه إياها جبريل عليه السلام .
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا موسى, قال: ثنا عمرو, قال: ثنا أسباط, عن السدي, قال: أمر -يعني أبا المرأتين- إحدى ابنتيه أن تأتيه, يعني أن تأتيَ موسى بعصا, فأتته بعصًا, وكانت تلك العصا عصًا استودعها إياه ملك في صورة رجل, فدفعها إليه, فدخلت الجارية, فأخذت العصا, فأتته بها; فلما رآها الشيخ قال: لا ائتيه بغيرها, فألقتها تريد أن تأخذ غيرها, فلا يقع في يدها إلا هي, وجعل يردّدها, وكل ذلك لا يخرج في يدها غيرها; فلما رأى ذلك عمد إليها, فأخرجها معه, فَرعَى بها. ثم إن الشيخ ندم وقال: كانت وديعة, فخرج يتلقى موسى, فلما لقيه قال: اعطني العصا, فقال موسى: هي عَصَايَ, فأبى أن يعطيه, فاختصما, فرضيا أن يجعلا بينهما أوّل رجل يلقاهما, فأتاهما ملك يمشي, فقال: ضعوها في الأرض, فمن حملها فهي له, فعالجها الشيخ فلم يطقها, وأخذ موسى بيده فرفعها, فتركها له الشيخ, فرعَى له عشر سنين. قال عبد الله بن عباس: كان موسى أحق بالوفاء.
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: قال -يعني أبا الجارية- لما زوّجها موسى لموسى: أدخل ذلك البيت فخذ عصا, فتوكأ عليها, فدخل, فلما وقف على باب البيت, طارت إليه تلك العصا, فأخذها, فقال: اردُدها وخذ أخرى مكانها, قال: فردّها, ثم ذهب ليأخذ أخرى, فطارت إليه كما هي, فقال: لا أرددها, فعل ذلك ثلاثا, فقال: ارددها, فقال: لا أجد غيرها اليوم, فالتفت إلى ابنته, فقال لابنته: إن زوجك لنبيّ.
* ذكر من قال: التي كانت آية عصًا أعطاها موسى جبرائيل عليه السلام:
حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن أبي بكر, قال: سألت عكرمة قال: أما عصا موسى, فإنها خرج بها آدم من الجنة, ثم قبضها بعد ذلك جبرائيل عليه السلام , فلقي موسى بها ليلا فدفعها إليه.
------------------------
الهوامش:
(9) يظهر أن في عبارة الأصل سقطًا، يعلم من عبارة الفراء في شرح البيت الآتي. وقوله: "على الدوام" أي أن (ما) الزائدة تلحق بلفظ أي دائمًا، وقوله وزعم أهل العربية... إلخ: يريد أن أهل العربية قالوا: إن "ما" إما أن تلحق بلفظ أي، أو تجيء بعدما أضيف إليه "أي"، وهذا أكثر في كلام العرب كما يعلم من الشاهدين الآتيين بعد.
(10) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (ص 241) على أن (ما) قد تزاد بعد المضاف إلى "أي" أداة الجزاء.قال: قوله (أيما الأجلين) فجعل ما وهي صلة من صلات الجزاء مع أي. وهي في قراءة عبد الله: (أي الأجلين ما قضيت فلا عدوان علي). وهذا أكثر في كلام العرب من الأول. ويتضح من هذا أن عبارة المؤلف قاصرة أو فيها جزء ساقط قبل قوله: "وزعم أهل العربية...." إلخ.
(11) البيت لعباس بن مرداس. وقد تقدم الاستشهاد به في مواضع. والشاهد هنا في زيادة "ما" بعدما أضيف إليه إي والمقامة: المجلس. وقيد إلى المقامة: دعاء عليه بأن يعمى، فلا يصل إلى مجلس قومه إلا إذا قيد.