تفسير الطبري

تفسير الآية رقم 118 من سورة آل عمران

القول في تأويل قوله : مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: شَبَهُ ما ينفق الذين كفروا، أي: شَبَهُ ما يتصدق به الكافر من ماله، (4) فيعطيه من يعطيه على وجه القُربة إلى ربّه وهو لوحدانية الله جاحد، ولمحمد صلى الله عليه وسلم مكذب، في أن ذلك غير نافعه مع كفره، وأنه مضمحلّ عند حاجته إليه، ذاهبٌ بعد الذي كان يرجو من عائدة نفعه عليه = كشبه ريح فيها برد شديد، أصابت هذه الريح التي فيها البرد الشديد =" حرثَ قوم "، (5) يعني: زرع قوم قد أمَّلوا إدراكه، ورجَوْا رَيْعه وعائدة نفعه =" ظلموا أنفسهم "، يعني: أصحاب الزرع، عصوا الله، وتعدَّوا حدوده =" فأهلكته "، يعني: فأهلكت الريح التي فيها الصرُّ زرعهم ذلك، بعد الذي كانوا عليه من الأمل ورجاء عائدة نفعه عليهم.
يقول تعالى ذكره: فكذلك فعل الله بنفقة الكافر وصدقته في حياته، حين يلقاه، يبطل ثوابها ويخيب رجاؤه منها. وخرج المثَل للنفقة، والمراد بـ " المثل " صنيع الله بالنفقة، فبيَّن ذلك قوله: " كمثل ريح فيها صرٌّ"، فهو كما قد بيّنا في مثله قوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا (6) [سورة البقرة: 17] وما أشبه ذلك.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام،: مثل إبطال الله أجرَ ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا، كمثل ريح فيها صر. وإنما جاز ترك ذكر " إبطال الله أجر ذلك "، لدلالة آخر الكلام عليه، وهو قوله: " كمثل ريح فيها صرٌّ"، ولمعرفة السامع ذلك معناه.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى " النفقة " التي ذكرها في هذه الآية.
فقال بعضهم: هي النفقة المعروفة في الناس.
*ذكر من قال ذلك:
7667- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: " مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا "، قال: نفقة الكافر في الدنيا.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك قوله الذي يقوله بلسانه، مما لا يصدِّقه بقلبه.
*ذكر من قال ذلك:
7668- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرثَ قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته "، يقول: مثل ما يقول فلا يقبل منه، كمثل هذا الزرع إذا زرعه القوم الظالمون، فأصابه ريح فيها صر، أصابته فأهلكته. فكذلك أنفقوا فأهلكهم شِرْكهم.
* * *
وقد بينا أولى ذلك بالصواب قبل.
* * *
وقد تقدم بياننا تأويل " الحياة الدنيا " بما فيه الكفاية من إعادته في هذا الموضع. (7)
* * *
وأما " الصر " فإنه شدة البرد، وذلك بعُصُوف من الشمال في إعصار الطَّلّ والأنداء، في صبيحة مُعْتمة بعقب ليلة مصحية، (8) كما:
7669- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن عثمان بن غياث قال، سمعت عكرمة يقول: " ريح فيها صر "، قال: بردٌ شديد.
7670- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس: " ريح فيها صر "، قال: برد شديد وزمهرير.
7671- حدثنا علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: " ريح فيها صر "، يقول: برد.
7672- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن ابن عباس: " الصر "، البرد.
7673- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: " كمثل ريح فيها صر "، أي: برد شديد.
7674- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.
7675- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي في" الصر "، البرد الشديد.
7676- حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثنا عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: " كمثل ريح فيها صر "، يقول: ريح فيها برد.
7677- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: " ريح فيها صر "، قال: " صر "، باردة أهلكت حرثهم. قال: والعرب تدعوها " الضَّريب "، تأتي الريح باردة فتصبح ضريبًا قد أحرق الزرع، (9) تقول: " قد ضُرب الليلة " أصابه ضريبُ تلك الصر التي أصابته.
7678- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا جويبر، عن الضحاك: " ريح فيها صر "، قال: ريح فيها برد.
* * *
القول في تأويل قوله : وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وما فعل الله بهؤلاء الكفار ما فعل بهم، من إحباطه ثواب أعمالهم وإبطاله أجورها ظلمًا منه لهم = يعني: وضعًا منه لما فعل بهم من ذلك في غير موضعه وعند غير أهله، بل وضَع فعله ذلك في موضعه، وفعل بهم ما هم أهله. لأن عملهم الذي عملوه لم يكن لله وهم له بالوحدانية دائنون، ولأمره مُتبعون، ولرسله مصدقون، بل كان ذلك منهم وهم به مشركون، ولأمره مخالفون، ولرسله مكذبون، بعد تقدُّم منه إليهم أنه لا يقبل عملا من عامل إلا مع إخلاص التوحيد له، والإقرار بنبوة أنبيائه، وتصديق ما جاءوهم به، وتوكيده الحجج بذلك عليهم. فلم يكن = بفعله ما فعل بمن كفر به وخالف أمره في ذلك = بعد الإعذار إليه، (10) من إحباط وَفْر عمله = له ظالمًا، بل الكافرُ هو الظالم نفسه، لإكسابها من معصية الله وخلاف أمره، ما أوردها به نار جهنم، وأصلاها به سعير سقَرَ. (11)
-------------------
الهوامش :
(4) انظر تفسير"النفقة" فيما سلف 5: 555 ، 580 / 6: 265.
(5) انظر تفسير"الحرث" فيما سلف 4: 240 ، 397 / 6: 257.
(6) انظر ما سلف 1: 318 - 328.
(7) انظر ما سلف 1: 314 ، 316.
(8) هذا البيان عن معنى"الصر" قلما تصيب مثله في كتب اللغة.
(9) الضريب: الصقيع والجليد.
(10) في المطبوعة والمخطوطة: "الاعتذار إليه" ، وهو خطأ صرف. وأعذر إعذارًا: أي بلغ الغاية في البلاغ ، ومنه قولهم: "أعذر من أنذر" ، أي بالغ في الإنذار حتى بان عذره ، إذا أنزل بمن أنذره ما يسوءه. وقوله: "وفر عمله" أي كثير عمله ووافره. و"الوفر" (بفتح فسكون). وكان في المطبوعة"وافر عمله" ، وأثبت ما في المخطوطة.
(11) سياق الجملة: "فلم يكن. . . له ظالما" ، وما بينهما فصل للبيان متعلق بقوله: "ظالما" ولكنه مقدم عليه.