تفسير الطبري
تفسير الآية رقم 120 من سورة آل عمران
القول في تأويل قوله : هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ها أنتم، أيها المؤمنون، الذين تحبونهم، يقول: تحبون هؤلاء الكفار الذين نهيتكم عن اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين، فتودونهم وتواصلونهم وهم لا يحبونكم، بل يبطنون لكم العداوة والغش (32) = " وتؤمنون بالكتاب كله ".
* * *
ومعنى " الكتاب " في هذا الموضع معنى الجمع، كما يقال: " كثر الدرهم في أيدي الناس "، بمعنى الدراهم.
فكذلك قوله: " وتؤمنون بالكتاب كله "، إنما معناه: بالكتب كلها، كتابكم الذي أنـزل الله إليكم، وكتابهم الذي أنـزله إليهم، وغير ذلك من الكتب التي أنـزلها الله على عباده.
يقول تعالى ذكره: فأنتم = إذ كنتم، أيها المؤمنون، تؤمنون بالكتب كلها، وتعلمون أنّ الذين نهيتكم عن أن تتخذوهم بطانة من دونكم كفار بذلك كله، بجحودهم ذلك كله من عهود الله إليهم، وتبديلهم ما فيه من أمر الله ونهيه = (33) أولى بعداوتكم إياهم وبغضائهم وغشهم، منهم بعداوتكم وبغضائكم،مع جحودهم بعضَ الكتب وتكذيبهم ببعضها. كما:-
7695- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: " تؤمنون بالكتاب كله "، أي: بكتابكم وكتابهم وبما مضى من الكتب قبل ذلك، وهم يكفرون بكتابكم، فأنتم أحقّ بالبغضاء لهم، منهم لكم. (34)
* * *
قال أبو جعفر: وقال: " ها أنتم أولاء " ولم يقل: " هؤلاء أنتم "، (35) ففرق بين " ها " و " أولاء " بكناية اسم المخاطبين، لأن العرب كذلك تفعل في" هذا " إذا أرادت به التقريب ومذهب النقصان الذي يحتاج إلى تمام الخبر، (36) وذلك مثل أن يقال لبعضهم: " أين أنت "، فيجيب المقول ذلك له." ها أنا ذا " = (37) فتفرق بين التنبيه و " ذا " بمكنيّ اسم نفسه، (38) ولا يكادون يقولون: " هذا أنا "، ثم يثني ويجمع على ذلك. وربما أعادوا حرف التنبيه مع: " ذا " فقالوا: " ها أنا هذا ". ولا يفعلون ذلك إلا فيما كان تقريبًا، (39) فأما إذا كان على غير التقريب والنقصان قالوا: " هذا هو "" وهذا أنت ". وكذلك يفعلون مع الأسماء الظاهرة، يقولون: " هذا عمرو قائمًا "، إن كان " هذا " تقريبًا. (40) وإنما فعلوا ذلك في المكني مع التقريب، (41) تفرقة بين " هذا " إذا كان بمعنى الناقص الذي يحتاج إلى تمام، وبينه إذا كان بمعنى الاسم الصحيح. (42)
* * *
وقوله: " تحبونهم " خَبَرٌ للتقريب. (43)
* * *
قال أبو جعفر: وفي هذه الآية إبانة من الله عز وجل عن حال الفريقين - أعني المؤمنين والكافرين، ورحمة أهل الإيمان ورأفتهم بأهل الخلاف لهم، وقساوة قلوب أهل الكفر وغلظتهم على أهل الإيمان، كما:-
7696- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: " ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله "، فوالله إن المؤمن ليحب المنافق ويأوى له ويرحمه. ولو أن المنافق يقدر على ما يقدر عليه المؤمن منه، لأباد خضراءه. (44)
7697- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: المؤمن خير للمنافق من المنافق للمؤمن، يرحمه. ولو يقدر المنافق من المؤمن على مثل ما يقدر المؤمن عليه منه، لأباد خضراءه.
* * *
وكان مجاهد يقول: نـزلت هذه الآية في المنافقين.
7698- حدثني بذلك محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد.
* * *
القول في تأويل قوله : وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: أن هؤلاء الذين نهى الله المؤمنين أن يتخذوهم بطانة من دونهم، ووصفهم بصفتهم، إذا لقوا المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطوهم بألسنتهم تقيةً حذرًا على أنفسهم منهم فقالوا لهم: " قد آمنا وصدقنا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم "، وإذا هم خلوا فصاروا في خلاء حيث لا يراهم المؤمنون، (45) عضوا - على ما يرون من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم وصلاح ذات بينهم - أناملَهم، وهي أطراف أصابعهم، تغيُّظًا مما بهم من الموجدة عليهم، وأسىً على ظهرٍ يسنِدون إليه لمكاشفتهم العداوة ومناجزتهم المحاربة. (46)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
7699- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: " وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ "، إذا لقوا المؤمنين قالوا: "آمنا "، ليس بهم إلا مخافة على دمائهم وأموالهم، فصانعوهم بذلك =" وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ "، يقول: مما يجدون في قلوبهم من الغيظ والكراهة لما هم عليه. لو يجدون ريحًا لكانوا على المؤمنين، (47) فهم كما نعت الله عز وجل.
7700- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله = إلا أنه قال: من الغيظ لكراهتهم الذي هم عليه = ولم يقل: " لو يجدون ريحًا "، وما بعده.
7701- حدثنا عباس بن محمد قال، حدثنا مسلم قال: حدثني يحيى بن عمرو بن مالك النُّكري قال، حدثنا أبي قال: كان أبو الجوزاء إذا تلا هذه الآية: " وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ "، قال: هم الإباضية. (48)
* * *
و " الأنامل " جمع " أنملة " ويقال " أنملة "، (49) وربما جمعت " أنملا "، (50) قال الشاعر: (51)
أوَدُّكُمــا، مَـا بَـلَّ حَـلْقِيَ رِيقَتِـي
وَمـا حَـمَلَتْ كَفَّـايَ أَنْمُـلِيَ العَشْـرَا (52)
وهي أطراف الأصابع; كما:-
7702- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: " الأنامل "، أطراف الأصابع.
7702 م - حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، بمثله.
7703- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل "، الأصابع.
7704- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، قوله: " عضوا عليكم الأنامل من الغيظ "، قال: عضوا على أصابعهم. (53)
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل : قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)
قال أب جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: " قل "، يا محمد، لهؤلاء اليهود الذين وصفت لك صفتهم، وأخبرتك أنهم إذا لقوا أصحابك قالوا: آمنا، وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ =: " موتوا بغيظكم " الذي بكم على المؤمنين لاجتماع كلمتهم وائتلاف جماعتهم.
وخرَج هذا الكلام مخرج الأمر، وهو دعاء من الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بأن يدعو عليهم بأن يهلكهم الله، كمَدًا مما بهم من الغيظ على المؤمنين، قبل أن يروا فيهم ما يتمنون لهم من العنت في دينهم، والضلالة بعد هداهم، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد: أهلكوا بغيظكم =" إن الله عليم بذات الصدور "، يعني بذلك: إن الله ذو علم بالذي في صدور هؤلاء الذين إذا لقوا المؤمنين، قالوا: "آمنا "، وما ينطوون لهم عليه من الغل والغم، ويعتقدون لهم من العداوة والبغضاء، وبما في صدور جميع خلقه، حافظٌ على جميعهم ما هو عليه منطوٍ من خير وشر، حتى يجازي جميعهم على ما قدَّم من خير وشر، واعتقد من إيمان وكفر، وانطوى عليه لرسوله وللمؤمنين من نصيحة، أو غِلّ وغِمْر. (54)
---------------------
الهوامش :
(32) في المطبوعة: "بل سطروه" ، وفي المخطوطة: "بل ينتظرون" غير منقوطة ، وصوابها ما أثبت كما استظهره طابع الأميرية.
(33) سياق هذه العبارة: فأنتم ... أولى بعداوتكم إياهم.
(34) الأثر: 7695- سيرة ابن هشام 2: 207 ، وهو من تمام الآثار السالفة التي آخرها: 7680.
(35) في المخطوطة: "ولم يقل: هذا أنتم" ، والصواب ما في المطبوعة ، فهو حق السياق.
(36) التقريب" من اصطلاح الكوفيين ، وقد فسره السيوطي في همع الهوامع 1: 113 ، فقال [ذهب الكوفيون إلى أن"هذا" و"هذه" ، إذا أريد بها التقريب كانا من أخوات"كان" ، في احتياجهما إلى اسم مرفوع وخبر منصوب ، نحو: "كيف أخاف الظلم وهذا الخليفة قادمًا؟" ، "وكيف أخاف البرد ، وهذه الشمس طالعة؟" ، وكذلك كل ما كان فيه الاسم الواقع بعد أسماء الإشارة لا ثاني له في الوجود ، نحو: "هذا ابن صياد أسقى الناس" ، فيعربون"هذا" تقريبًا ، والمرفوع اسم التقريب ، والمنصوب خبر التقريب. لأن المعنى إنما هو عن الخليفة بالقدوم ، وعن الشمس بالطلوع ، وأتى باسم الإشارة تقريبا للقدوم والطلوع. ألا ترى أنك لم تشر إليهما وهما حاضران؟ وأيضًا ، فالخليفة والشمس معلومان ، فلا يحتاج إلى تبيينهما بالإشارة إليهما. وتبين أن المرفوع بعد اسم الإشارة يخبر عنه بالمنصوب ، لأنك لو أسقطت الإشارة لم يختل المعنى ، كما لو أسقطت"كان" من: "كان زيد قائما"].
(37) في المطبوعة: "فيفرق" ، والصواب بالتاء ، لأنه يريد"العرب". وسياق الكلام: "لأن العرب كذلك تفعل ... فتفرق ...".
(38) في المخطوطة: "بين التنبيه وأولاء". والذي في المطبوعة أجود وأمضى على السياق ، وهو تغيير مستحسن. والظاهر أن الخطأ قديم في نسخ الطبري ، بل لعله من فعل أبي جعفر نفسه ، وكأنه لما نقل هذا الكلام ، وهو كلام الفراء ، اختصر أوله فقال: "لأن العرب كذلك تفعل في هذا" ، واقتصر عليها ، مع أن الفراء ذكر"هذا ، وهذان ، وهؤلاء". هذا مع اشتغال ذهنه بنص الآية نفسها ، فدخل عليه السهو فيما كتب. هذا ما أرجحه والله ولي التوفيق.
(39) انظر معنى"التقريب" فيما سلف ص: 149 تعليق: 4.
(40) في المطبوعة والمخطوطة: "وإن كان ..." بالواو ، وإثباتها فساد في الكلام شديد لأنه يعني أنهم ينصبون: "قائما" ، إن كان"هذا" بمعنى التقريب. والجملة الآتية مؤيدة لذلك.
(41) انظر معنى"التقريب" فيما سلف ص: 149 تعليق: 4.
(42) في المطبوعة: "وبينه وبين ما إذا كان بمعنى الاسم الصحيح" ، زاد من زاد"وبين ما" ظنا منه أن ذلك أقوم في الدلالة على المعنى من عبارة أبي جعفر التي ثبتها من المخطوطة. وقد أساه غاية الإساءة!
(43) يعني بقوله: "خبر للتقريب" ، أي هو في موضع نصب خبرًا للتقريب ، كما أسلفت بيان ذلك من كلام السيوطي في ص 149 ، تعليق: 4.
(44) أوى له وأوى إليه: رثى له وأشفق عليه ورحمه. ويقال: "أباد خضراءهم" ، أي سوادهم ومعظمهم ، واستأصلهم. وذلك أن الكثرة المجتمعة ، ترى من بعيد سوداء ، والعرب تسمى الأخضر ، أسود.
(45) انظر تفسير"خلا" فيما سلف 1: 298 ، 299.
(46) الظهر: الأعوان والأنصار ، كأنهم لمن ينصرونه ظهر.
(47) الريح: القوة والغلبة ، ومنه قول تأبط شرًا أو السليك بن السلكة:
أَتَنْظُــرَانِ قَلِيــلا رَيْــثَ غَفْلَتِهـمْ
أَوْ تَعْــدُوَان، فَـإِنَّ الـرِّيحَ للعَـادِي
(48) الأثر: 7701-"عباس بن محمد بن حاتم" الدوري ، روى عنه الأربعة. مترجم في التهذيب. و"مسلم" هو"مسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي" ، مضت ترجمته برقم: 2861. و"يحيى بن عمرو بن مالك النكري". روى عن أبيه ، وهو منكر الحديث. و"النكرى" بضم النون وتسكين الكاف ، نسبة إلى بني نكرة بن لكيز من عبد قيس. وأبوه"عمرو بن مالك النكري" ، ثقة وتكلم فيه البخاري وضعفه. روى عن أبيه وعن أبي الجوزاء. و"أبو الجوزاء" هو"أوس بن عبد الله الربعي من الأزد" ، روى عن أبي هريرة وعائشة وابن عباس. كان عابدًا فاضلا. واستضعف البخاري إسناده إلى عائشة وابن مسعود وغيرهما من الصحابة. مترجم في التهذيب.
و"الإباضية" ، فرقة من الحرورية ، وهم أصحاب عبد الله بن إباض التميمي ، الخارج في أيام مروان بن محمد. ومن قولهم: إن مخالفينا من أهل القبلة كفار غير مشركين ، ومناكحتهم جائزة ، وموارثتهم حلال ، وغنيمة أموالهم من السلاح والكراع عند الحرب حلال ، وما سواه حرام ، وإن دار مخالفيهم من أهل الإسلام دار توحيد. وقالوا: إن مرتكب الكبيرة موحد ، لا مؤمن.
(49) يعني بفتح الهمزة وضم الميم ، وضم الهمزة والميم جميعا.
(50) "أنمل" هذا جمع لم تورده كتب اللغة ، وإنما ذكروا"أنملات" ، وقالوا إنه أحد ما كسر وسلم بالتاء ، قال ابن سيدهْ: "إنما قلت هذا ، لأنهم قد يستغنون بالتكسير عن جمع السلامة ، وبجمع السلامة بالتكسير ، وربما جمع الشيء بالوجهين جميعًا".
(51) لم أعرف قائله.
(52) قوله: "أود كما" أي: لا أود كما ، حذفت"لا" مع القسم. والريقة: الريق. وقوله: "ما بل حلقي ريقي ..." إلى آخر البيت بمعنى التأييد ، أي. لا أود كما أبدًا ما حييت.
(53) عند هذا آخر قسم من التقسيم القديم ، وفي المخطوطة هنا ما نصه: "يتلوه القولُ في تأويل قوله: قُلْ مُوتُوا بِغَيظكم إنَّ الله عليمٌ بذات الصُّدُور وصلى الله على محمد النبي وآله وصحبه وسلم كثيرًا"
ثم يتلوه بعد:
"بسم الله الرحمن الرحيم
أخبرنا أبو بكر محمد بن داود بن سليمان ، قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن جرير" ثم انظر ما سلف في بيان هذا الإسناد الجديد للنسخة ، في 6: 495 ، 496 تعليق: 5 / ثم 7: 23 ، تعليق 1.
(54) الغمر (بكسر الغين وسكون الميم) ، والغمر (بفتحتين) ، الحقد والغل ، الذي يغمر القلب غمرًا.