تفسير الطبري
تفسير الآية رقم 167 من سورة آل عمران
القول في تأويل قوله : وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك عبدَ الله بن أبيّ ابن سلول المنافق وأصحابَه، الذين رجعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، حين سار نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين بأحد لقتالهم، فقال لهم المسلمون: تعالوا قاتلوا المشركين معنا، أو ادفعوا بتكثيركم سوادنا! فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لسرنا معكم إليهم، ولكنا معكم عليهم، ولكن لا نرى أنه يكون بينكم وبين القوم قتالٌ! فأبدوْا من نفاق أنفسهم ما كانوا يكتمونه، وأبدوا بألسنتهم بقولهم: " لو نعلم قتالا لاتبعناكم "، غير ما كانوا يكتمونه ويخفونه من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به، كما:-
8193- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، وغيرهم من علمائنا، كلهم قد حدَّث قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني حين خرج إلى أحد - في ألف رجل من أصحابه، حتى إذا كانوا بالشوط بين أحد والمدينة، انخزل عنهم عبدالله بن أبيّ ابن سلول بثلث الناس وقال: (6) أطاعهم فخرج وعصاني! والله ما ندري علامَ نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس!! فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه من أهل النفاق وأهل الريْب، واتبعهم عبدالله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة يقول: يا قوم، أذكّركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضر من عدوّهم! فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أن يكون قتال! فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف عنهم، قال: أبعدَكم الله أعداء الله! فسيُغني الله عنكم! ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم. (7)
8194- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: " وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا "، يعني: عبدالله بن أبيّ ابن سلول وأصحابه الذين رجعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سار إلى عدوّه من المشركين بأحد = وقوله: " لو نعلم قتالا لاتبعناكم "، يقول: لو نعلم أنكم تقاتلون لسرنا معكم، ولدفعنا عنكم، ولكن لا نظن أن يكون قتال. فظهر منهم ما كانوا يخفون في أنفسهم = يقول الله عز وجل: " هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم "، يظهرون لك الإيمان، وليس في قلوبهم، (8) =" والله أعلم بما يكتمون "، أي: يخفون. (9)
8195- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني يوم أحد- في ألف رجل، وقد وعدهم الفتحَ إن صبرُوا. فلما خرجوا، رجع عبدالله بن أبي ابن سلول في ثلثمئة، فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم، فلما غلبوه وقالوا له: ما نعلم قتالا ولئن أطعتنا لترجعن معنا! = (10) قال: فذكر الله أصحاب عبدالله بن أبيّ ابن سلول، وقول عبدالله بن جابر بن عبدالله الأنصاري حين دعاهم فقالوا: " ما نعلم قتالا ولئن أطعتمونا لترجعُنّ معنا "، فقال: الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ . (11) .
8196- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال عكرمة: " قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم "، قال: نـزلت في عبدالله بن أبيّ ابن سلول = قال ابن جريج، وأخبرني عبدالله بن كثير، عن مجاهد " لو نعلم قتالا "، قال: لو نعلم أنَّا واجدون معكم قتالا لو نعلم مكان قتال، لاتبعناكم.
* * *
واختلفوا في تأويل قوله " أو ادفعوا ".
فقال بعضهم: معناه: أو كثِّروا، فإنكم إذا كثرتم دفعتم القوم.
*ذكر من قال ذلك:
8197- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " أو ادفعوا "، يقول: أو كثِّروا.
8198- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: " أو ادفعوا "، قال: بكثرتكم العدو، وإن لم يكن قتال.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: أو رابِطوا إن لم تقاتلوا.
*ذكر من قال ذلك:
8198م- حدثنا إسماعيل بن حفص الآيلي وعلي بن سهل الرملي قالا حدثنا الوليد بن مسلم قال، حدثنا عتبة بن ضمرة قال: سمعت أبا عون الأنصاري في قوله: " قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا "، قال: رابطوا. (12)
* * *
وأما قوله: " والله أعلم بما يكتمون "، فإنه يعني به: والله أعلم من هؤلاء المنافقين الذين يقولون للمؤمنين: " لو نعلم قتالا لاتبعناكم "، بما يضمرون في أنفسهم للمؤمنين ويكتمونه فيسترونه من العداوة والشنآن، وأنهم لو علموا قتالا ما تبعوهم ولا دافعوا عنهم، وهو تعالى ذكره محيط بما هم مخفوه من ذلك، (13) مطلع عليه، ومحصيه عليهم، حتى يهتك أستارهم في عاجل الدنيا فيفضحهم به، ويُصليهم به الدرك الأسفل من النار في الآخرة.
---------------
الهوامش :
(6) في المطبوعة: "فقال" ، والصواب من المخطوطة ، وسيرة ابن هشام.
(7) الأثر: 8193- سيرة ابن هشام 3: 68 ، وهو تابع الأثر الماضي رقم: 7715 ، وبين رواية الطبري ، ورواية ابن هشام خلاف في بعض اللفظ.
(8) في المطبوعة والمخطوطة: "هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان ، وليس في قلوبهم" ، وقد اختل الكلام ، وأظنه سقط من سهو الناسخ ، فأتممته من السيرة ، وأتممت الآية وتفسيرها بعدها.
(9) الأثر: 8194- سيرة ابن هشام 3: 125 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8192.
(10) في هذا الأثر اختصار مخل ، وقد مضى تمامه برقم 7723 ، وجواب"فلما غلبوه" ، في بقية الأثر وهو: "هموا بالرجوع" ، يعني بني سلمة رهط أبي جابر السلمي. وانظر التخريج بعد.
(11) الأثر: 8195- مضى بعضه برقم: 7723 ، والتاريخ 3: 12.
(12) الأثر: 8198م-"إسماعيل بن حفص الأيلي" ، سلفت ترجمته برقم: 7581 ، وكان في المطبوعة هنا أيضًا"الآملي" مكان"الأيلي" ، وهو خطأ ، وفي المخطوطة"الأيلي" غير منقوطة ، وصواب قراءتها ما أثبت. و"الوليد بن مسلم القرشي" ، سلفت ترجمته برقم: 6410. و"عتبة بن ضمرة بن حبيب بن صهيب الزبيدي الحمصي" ، روى عن أبيه ، وعمه المهاجر ، ومحمد بن زياد الألهاني ، وأبي عون الشامي. ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب ، و"أبو عون الأنصاري الشامي الأعور" روى عن أبي إدريس الخولاني ، ثقة. مترجم في التهذيب.