تفسير الطبري
تفسير الآية رقم 38 من سورة آل عمران
القول في تأويل قوله : هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)
قال أبو جعفر: وأما قوله: " هنالك دعا زكريا ربه "، فمعناها: عند ذلك، أي: عند رؤية زكريا ما رأى عند مريم من رزق الله الذي رَزَقها، وفضله الذي آتاها من غير تسبُّب أحد من الآدميين في ذلك لها = (1) ومعاينته عندَها الثمرة الرّطبة التي لا تكون في حين رؤيته إياها عندَها في الأرض = (2) طمع بالولد، مع كبر سنه، من المرأة العاقر. فرجا أن يرزقه الله منها الولد، مع الحال التي هما بها، كما رزق مريم على تخلِّيها من الناس ما رَزَقها من ثمرة الصيف في الشتاء وثمرة الشتاء في الصيف، وإن لم يكن مثله مما جرت بوجوده في مثل ذلك الحين العاداتُ في الأرض، بل المعروف في الناس غير ذلك، كما أن ولادة العاقر غيرُ الأمر الجاريةِ به العادات في الناس. فرغب إلى الله جل ثناؤه في الولد، وسأله ذرّيةً طيبة.
وذلك أن أهل بيت زكريا - فيما ذكر لنا - كانوا قد انقرضوا في ذلك الوقت، كما:-
6940 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: فلما رأى زكريا من حالها ذلك = يعني: فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف = قال: إنّ ربًّا أعطاها هذا في غير حينه، لقادرٌ على أن يرزقني ذرية طيبة! ورغب في الولد، فقام فصلَّى، ثم دعا ربه سرًّا فقال: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [سورة مريم: 4-6]، = وقوله: (3) ( رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ) = وقال: رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ [سورة الأنبياء: 89].
6941 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: فلما رأى ذلك زكريا - يعني فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف - عند مريم قال: إنّ الذي يأتي بهذا مريمَ في غير زمانه، قادرٌ أن يرزقني ولدًا، قال الله عز وجل: " هنالك دعا زكريا ربه "، قال: فذلك حين دعا.
6942 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر، عن عكرمة قال: فدخل المحرابَ وغلَّق الأبوابَ، وناجى ربه فقال: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا إلى قوله: رَبِّ رَضِيًّا = فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ الآية.
6943 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم قال: فدعا زكريا عند ذلك بعد ما أسنّ ولا ولد له، وقد انقرض أهل بيته فقال: " ربّ هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء "، ثم شكا إلى ربه فقال: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا إلى وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا = فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ الآية.
* * *
وأما قوله: " ربّ هب لي من لدنك ذرية طيبة "، فإنه يعني بـ" الذرية " النسل، وبـ" الطيبة " المباركة، (4) كما:-
6944 - حدثني موسى قال: حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " قال رَبّ هب لي من لدنك ذرية طيبة "، يقول: مباركة.
* * *
وأما قوله: " من لدنك "، فإنه يعني: من عندك.
* * *
وأما " الذرية "، فإنها جمع، وقد تكون في معنى الواحد، وهي في هذا الموضع الواحد. وذلك أنّ الله عز وجل قال في موضع آخر، مخبرًا عن دعاء زكريا: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [سورة مريم: 5]، ولم يقل: أولياء - فدلّ على أنه سأل واحدًا. وإنما أنث " طيبة "، لتأنيث الذرّية، كما قال الشاعر: (5)
أَبُــوكَ خَلِيفَــةٌ وَلَدَتْــهُ أُخْــرَى
وَأَنْـــتَ خَلِيفَـــةٌ, ذَاكَ الكَمَــالُ (6)
فقال: " ولدته أخرى "، فأنَّث، وهو ذَكر، لتأنيث لفظ " الخليفة "، كما قال الآخر: (7)
فَمَــا تَْــزدَرِي مِـنْ حَيَّـةٍ جَبَلِيَّـةٍ
سُـكَاتٍ, إذَا مَـا عَـضَّ لَيْسَ بِـأَدْرَدَا (8)
فأنث " الجبلية " لتأنيث لفظ " الحية "، ثم رجع إلى المعنى فقال: " إذا مَا عَضّ"، لأنه كان أراد حَية ذكرًا، وإنما يجوز هذا فيما لم يقع عليه " فلانٌ" من الأسماء، كـ" الدابة، والذرية، والخليفة ". فأما إذا سُمّي رجل بشيء من ذلك، فكان في معنى " فلان "، لم يجز تأنيثُ فعله ولا نعته. (9)
* * *
وأما قوله: " إنك سميع الدعاء "، فإن معناه: إنك سامع الدعاء، غير أنّ" سميع "، أمدَحُ، وهو بمعنى: ذو سمع له. (10)
* * *
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معناه: إنك تَسمعَ ما تُدْعى به.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية، فعند ذلك دعا زكريا ربه فقال: رب هب لي من عندك ولدًا مباركًا، إنك ذو سَمعٍ دُعاءَ من دَعاك.
------------------
الهوامش :
(1) قوله: "ومعاينته عندها..." معطوف على قوله آنفًا: "عند رؤية زكريا. . .".
(2) سياق الجملة: أي عند رؤية زكريا ما رأى. . . وعند معاينته عندها الثمرة... طمع بالولد..." وفي المطبوعة: "طمع في الولد.." ، وأثبت ما في المخطوطة ، وكلاهما صواب.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "وقوله" ، والسياق يقتضي ما أثبت ، وذاك من عجلة الناسخ.
(4) انظر قوله"ذرية" فيما سلف 3: 19 ، 79 / ثم 5: 543 / 6: 327 ولم يفسرها في هذه المواضع ، ثم فسرها هنا ، وهو من اختصار هذا الكتاب الجليل ، كما قيل في ترجمته.
ثم انظر تفسير"الطيب" فيما سلف 3: 301 / ثم 5: 555.
(5) لم أعرف قائله.
(6) معاني القرآن للفراء 1: 208 سيأتي في التفسير 4: 150 (بولاق).
(7) لم أعرف قائله.
(8) معاني القرآن للفراء 1: 208 ، واللسان (سكت) وكان في المطبوعة: "كما تزدري... سكاب... ليس بأزدرا" ، وهو خطأ. والحية إذا كانت جبلية ، فذاك أشد لها ولسمها ، يقول عنترة:
أَصَــمَّ جبَــالِيٍّ, إِذا عَـضَّ عَضَّـةً
تَـــزَايَلَ عَنْــهُ جِــلْدُه فتبــدّدَا
وحية سكوت وسكات (بضم السين): إذا لم يشعر الملسوع به حتى يلسعه ، والأدرد: الذي سقطت أسنانه ، فلم يبق في فمه سن. يصف رجلا داهية. يقول: كيف تستخف به ، وهو حية فاتكة ، لا يشعر الملسوع بعضها حتى تعضه بناب لم يسقط ولم يذهب سمه.
(9) انظر معاني القرآن للفراء 1: 208 ، 209.
(10) انظر تفسير"سميع" فيما سلف 2: 140 ، 377 ، 540 / 3: 399 / 4: 488.