تفسير الطبري
تفسير الآية رقم 46 من سورة آل عمران
القول في تأويل قوله : وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)
قال أبو جعفر: وأما قوله: " ويكلمُ الناس في المهد "، فإن معناه: إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم، وجيهًا عند الله، ومُكلِّمًا الناسَ في المهد.
= ف " يكلم "، وإن كان مرفوعًا، لأنه في صورة " يفعل " بالسلامة من العوامل فيه، فإنه في موضع نصب، وهو نظير قول الشاعر: (1)
بِــتُّ أُعَشِّــيهَا بِعَضْــبٍ بَــاتِرِ
يَقْصِــدُ فِــي أَسْــوُقِهَا وَجَــائِرِ (2)
* * *
وأما " المهد "، فإنه يعني به: مضجع الصبيّ في رضاعه، كما:-
7071 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: " ويكلم الناس في المهد "، قال: مضجع الصبي في رَضَاعه.
* * *
وأما قوله : " وكهلا "، فإنه: وُمحتَنِكًا فوق الغُلومة، (3) ودُون الشيخوخة، يقال منه: " رجل كهل = وامرأة كهلة "، كما قال الراجز: (4)
وَلا أَعُـــودُ بَعْدَهَـــا كَرِيَّـــا
أُمَـــارِسُ الكَهْلَـــةَ وَالصَّبِيَّـــا (5)
* * *
وإنما عنى جل ثناؤه بقوله: " ويكلم الناسَ في المهد وكهلا "، ويكلم الناس طفلا في المهد = دلالةً على براءَة أمه مما قَرَفها به المفترون عليها، (6) وحجة له على نبوّته = وبالغًا كبيرًا بعد احتناكه، (7) بوحي الله الذي يوحيه إليه، وأمره ونهيه، وما ينـزل عليه من كتابه. (8)
* * *
وإنما أخبر الله عز وجل عبادَه بذلك من أمر المسيح، وأنه كذلك كان، وإن كان الغالب من أمر الناس أنهم يتكلمون كهولا وشيوخًا = احتجاجًا به على القائلين فيه من أهل الكفر بالله من النصارى الباطلَ، (9) وأنه كان = [منذ أنشأه] مولودًا طفلا ثم كهلا = يتقلب في الأحداث، (10) ويتغير بمرُور الأزمنة عليه والأيام، من صِغر إلى كبر، ومن حال إلى حال = وأنه لو كان، كما قال الملحدون فيه، كان ذلك غيرَ جائز عليه. فكذّب بذلك ما قاله الوفدُ من أهل نجران الذين حاجُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، واحتج به عليهم لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأعلمهم أنه كان كسائر بني آدم، إلا ما خصه الله به من الكرامة التي أبانه بها منهم، كما:-
7072 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: " ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين ": يخبرهم بحالاته التي يتقلب بها في عمره، كتقلب بني آدم في أعمارهم صغارًا وكبارًا، إلا أن الله خَصّه بالكلام في مهده آيةً لنبوته، وتعريفًا للعباد مواقع قدرته. (11)
7073 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: " ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين "، يقول: يكلمهم صغيرًا وكبيرًا.
7074 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: " ويكلم الناس في المهد وكهلا "، قال: يكلمهم صغيرًا وكبيرًا.
7075 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " وكهلا ومن الصالحين "، قال: الكهلُ الحليم.
7076 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: كلمهم صغيرًا وكبيرًا وكهلا = وقال ابن جريج، وقال مجاهد: الكهل الحليم.
7077 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله: " ويكلم الناس في المهد وكهلا "، قال: كلمهم في المهد صبيًّا، وكلمهم كبيرًا.
* * *
وقال آخرون: معنى قوله: " وكهلا "، أنه سيكلمهم إذا ظهر.
ذكر من قال ذلك:
7078 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعته - يعني ابن زيد - يقول في قوله: " ويكلم الناس في المهد وكهلا "، قال: قد كلمهم عيسى في المهد، وسيكلمهم إذا قتل الدجال، وهو يومئذ كهلٌ.
* * *
ونصب " كهلا "، عطفًا على موضع " ويكلم الناس ".
* * *
وأما قوله : " ومن الصالحين "، فإنه يعني: من عِدَادهم وأوليائهم، لأنّ أهل الصلاح بعضهم من بعض في الدين والفضل.
----------------------
الهوامش :
(1) لم أعرف قائله.
(2) معاني القرآن للفراء 1: 213 وأمالي ابن الشجري 2: 167 ، والخزانة 2: 345 ، واللسان (كهل). وقد ذكر البغدادي اختلاف رواية الشعر ، "ويعشيها" من العشاء ، وهو طعامها عند العشاء. يصف كرم الكريم ينحر عند مجيء الأضياف إبله في قراهم ، والعضب: السيف القاطع ، والباتر: الذي يفصم الضريبة. وأسوق جمع ساق. وقصد يقصد: توسط فلم يجاوز الحد. يقول: يضرب سوقها بسيفه لا يبالي أيقصد أم يجور ، من شدة عجلته وحفاوته بضيفه.
هذا ، وانظر تفصيل ما قال أبو جعفر في معاني القرآن للفراء 1: 213 ، 214.
(3) يقال: "غلام بين الغلومة والغلومية والغلامية" ، مثل: "الطفولة والطفولية".
(4) هو عذافر الفقيمي.
(5) الجمهرة 3: 339 ، المخصص 1: 40 أمالي ، القالي 2: 215 ، والسمط: 836 ، شرح أدب الكاتب لابن السيد: 217 ، 389 ، وللجواليقي: 295 ، واللسان (كهل) (كرا) (شعفر) (أمم) ، وغيرها ، وكان العذافر يكري إبله إلى مكة ، فأكرى معه رجل من بني حنيفة ، من أهل البصرة ، بعيرًا يركبه هو وزوجته ، وكان اسمها"شعفر" ، فقال يرجز بهما:
لَــوْ شَـاءَ رَبِّـي لَـمْ أكُـنْ كَرِيَّـا
وَلَـــمْ أَسُــقْ بَشَــعْفَرَ المطَّيــا
بَصْرِيّـــةٌ تَزَوَّجَـــتْ بَصْرِيَّــا
يُطْعِمُهَـــا المَـــالِحَ والطَّرِيَّـــا
وَجَـــيِّدَ الـــبُرِّ لَهَــا مَقْلِيَّــا
حَـــتَّى نَتَـــتْ سُــرَّتُها نَتِيَّــا
وَفَعَلَــــتْ ثُنَّتُهــــا فَرِيَّـــا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والرجز المروي بعد هذه الأبيات ، فيما يظهر. والكري: المكاري ، الذي يستأجر الركاب دابته. وبعد البيتين اللذين رواهما أبو جعفر:
وَالْعَــــزَبَ المُنَفَّـــهَ الأُمِّيَّـــا
والمنفه: الذي قد أعياه السير ونفهه ، فضعف وتساقط. والأمي: العيي الجلف الجافي القليل الكلام.
(6) في المطبوعة: "قذفها" ، وانظر آنفًا: ص 413 ، تعليق: 3.
(7) قوله: "وبالغًا" معطوف على قوله آنفًا: "طفلا في المهد". ثم قوله: بعد"بوحي الله" جار ومجرور متعلق بقوله آنفًا: "ويكلم الناس. .".
(8) في المطبوعة: "وما تقول عليه" ، ومعاذ الله أن يكون ذلك!! والكلمة في المخطوطة سيئة الكتابة ، مستفسدة مستصلحة ، وهي على ذلك بينة لمن يدرك بعض معاني الكلام!!
(9) في المطبوعة: "بالباطل" ، وهو تبديل لعبارة الطبري التي يألفها قارئ كتابه. وقوله: "الباطل" منصوب مفعول به لقوله: "القائلين..."
(10) في المطبوعة: "وأنه كان في معناه أشياء مولودًا..." ، وفي المخطوطة: "وأنه كان في معانيه أشيا مولودًا..." ، ولم أستطع أن أجد لشيء من ذلك معنى أرتضيه ، وقد جهدت في معرفة تصحيفه أو تحريفه زمنًا ، حتى ضفت به ، وحتى ظننت أنه سقط من الناسخ شيء يستقيم به هذا الكلام ، مع ترجيح التصحيف والتحريف فيه. فرأيت أن أضع بين القوسين ما يستقيم به الكلام ، وأن أخلي الأصل من هذه الجملة. هذا مع اعتقادي أن"معه أشيا" هي"منذ أنشأه" كما أثبتها. والسياق: "أنه كان... يتقلب في الأحداث" ، وما بينهما فصل وضعته بين الخطين.
(11) الأثر: 7072- سيرة ابن هشام 2: 230 ، وهو من تمام الآثار التي آخرها رقم: 7067.