تفسير الطبري

تفسير الآية رقم 90 من سورة آل عمران

القول في تأويل قوله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضُهم: عنى الله عز وجل بقوله: " إنّ الذين كفروا " ببعض أنبيائه الذين بعثوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم (19) =" بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا " بكفرهم بمحمد =" لن تقبل توبتهم "، عند حُضور الموت وحَشرجته بنفسه.
ذكر من قال ذلك:
7372 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله: " إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تُقبل توبتهم وأولئك هم الضالون "، قال: اليهودُ والنصارى، لن تُقبل توبتهم عند الموت.
7373 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،قوله: " إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا "، أولئك أعداء الله اليهود، كفروا بالإنجيل وبعيسى، ثم ازدادوا كفرًا بمحمد صلى الله عليه وسلم والفُرْقان.
7374 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: " ثم ازدادوا كفرًا "، قال: ازدادوا كفرًا حتى حَضرهم الموت، فلم تقبل توبتهم حين حضرهم الموت = قال معمر: وقال مثلَ ذلك عطاءٌ الخراساني.
7375 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة قوله: " إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون "، وقال: هم اليهود، كفروا بالإنجيل، ثم ازدادوا كفرًا حين بَعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم، فأنكرُوه، وكذبوا به.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إن الذين كفروا من أهل الكتاب بمحمد، بعد إيمانهم بأنبيائهم =" ثم ازدادوا كفرًا "، يعني: ذنوبًا =" لن تقبل توبتهم " من ذنوبهم، وهم على الكفر مقيمون.
ذكر من قال ذلك:
7376 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب، قال، حدثنا داود، عن رفيع: " إنّ الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا "، ازدادوا ذنوبًا وهم كفار =" لن تقبل توبتهم " من تلك الذنوب، ما كانوا على كفرهم وضَلالتهم.
7377 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود قال: سألت أبا العالية، قال، قلت: " إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تُقبل توبتهم "؟ قال: إنما هم هؤلاء النصارى واليهود الذين كفروا، ثم ازدادوا كفرًا بذنوب أصابوها، فهم يتوبون منها في كفرهم.
7378 - حدثنا عبد الحميد بن بيان السُّكري قال، أخبرنا ابن أبي عدي، عن داود قال: سألت أبا العالية عن: الذين آمنوا ثم كفروا، فذكر نحوًا منه. (20)
7379 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود قال: سألت أبا العالية عن هذه الآية: " إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تُقبل توبتهم وأولئك هم الضالون "، قال: هم اليهود والنصارى والمجوس، أصابوا ذنوبًا في كفرهم، فأرادوا أن يتوبوا منها، ولن يتوبوا من الكفر، (21) ألا ترى أنه يقول: " وأولئك هم الضالون "؟
7380 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان، عن داود، عن أبي العالية في قوله: " لن تقبل توبتهم "، قال: تابوا من بعضٍ، ولم يتوبوا من الأصل.
7381 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية قوله: " إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا "، قال: هم اليهود والنصارى، يصيبون الذنوبَ فيقولون: " نتوب "، وهم مشركون. قال الله عز وجل: لن تُقبل التوبة في الضّلالة.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن الذين كفروا بعد إيمانهم بأنبيائهم =" ثم ازدادوا كفرًا "، يعني: بزيادتهم الكفر: تمامُهم عليه، (22) حتى هلكوا وهم عليه مقيمون =" لن تقبل توبتهم "، لن تنفعهم توبتهم الأولى وإيمانهم، لكفرهم الآخِر وموتهم.
ذكر من قال ذلك:
7382 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله: " ثم ازدادوا كفرًا "، قال: تمُّوا على كفرهم = (23) قال ابن جريج: " لن تقبل توبتهم "، يقول: إيمانهم أوّلَ مرة لن ينفعهم.
* * *
وقال آخرون: معنى قوله: " ثم ازدادوا كفرًا "، ماتوا كفارًا، فكان ذلك هو زيادتهم من كفرهم. وقالوا: معنى " لن تقبل توبتهم "، لن تقبل توبتهم عند موتهم.
ذكر من قال ذلك:
7383 - حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون "، أمّا " ازدادوا كفرًا "، فماتوا وهم كفار. وأما " لن تقبل توبتهم " فعند موته، إذا تاب لم تقبل توبته.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل هذه الآية، قولُ من قال: " عنى بها اليهودَ" = وأن يكون تأويله: إن الذين كفروا من اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم عند مَبعثه، بعد إيمانهم به قبل مبعثه، ثم ازدادوا كفرًا بما أصَابوا من الذنوب في كفرهم ومُقامهم على ضلالتهم، لن تقبل توبتهم من ذنوبهم التي أصابوها في كفرهم، حتى يتوبوا من كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويراجعوا التوبة منه بتصديقه بما جاء به من عند الله. (24)
* * *
وإنما قلنا: " ذلك أولى الأقوال في هذه الآية بالصواب "، لأن الآيات قبلها وبعدها فيهم نـزلت، فأولى أن تكون هي في معنى ما قبلها وبعدها، إذ كانت في سياق واحد.
وإنما قلنا: " معنى ازديادهم الكفر: ما أصابوا في كفرهم من المعاصي"، لأنه جل ثناؤه قال: " لن تقبل توبتهم "، فكان معلومًا أن معنى قوله: " لن تقبل توبتهم "، إنما هو معنيٌّ به: لن تقبل توبتهم مما ازدادوا من الكفر على كفرهم بعد إيمانهم، لا من كفرهم. لأن الله تعالى ذكره وعد أن يقبل التوبة من عباده فقال: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ [سورة الشورى: 25]، فمحالٌ أنْ يقول عز وجل: " أقبل " و " لا أقبل " في شيء واحد. وإذْ كان ذلك كذلك = وكان من حُكم الله في عباده أنه قابلٌ توبةَ كل تائب من كل ذنب، وكان الكفر بعد الإيمان أحدَ تلك الذنوب التي وعد قَبول التوبة منها بقوله: إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) = علم أنّ المعنى الذي لا يقبل التوبةَ منه، غيرُ المعنى الذي يَقبل التوبة منه. (26) وإذْ كان ذلك كذلك، فالذي لا يَقبل منه التوبة، هو الازدياد على الكفر بعد الكفر، لا يقبل الله توبة صاحبه ما أقام على كفره، لأن الله لا يقبل من مشرك عملا ما أقام على شركه وضلاله. فأما إن تاب من شركه وكفره وأصلح، فإنّ الله - كما وصف به نفسه - غفورٌ رحيمٌ.
* * *
فإن قال قائل: وما تُنكر أن يكون معنى ذلك كما قال من قال: (27) " فلن تقبل توبته من كفره عند حضور أجله وتوبته الأولى "؟ (28)
قيل: أنكرنا ذلك، لأن التوبة من العبد غير كائنة إلا في حال حياته، فأما بعد مماته فلا توبة، وقد وعد الله عز وجل عبادَه قَبول التوبة منهم ما دامت أرواحُهم في أجسادهم. ولا خلاف بين جميع الحجة في أنّ كافرًا لو أسلم قبل خُرُوج نفسه بطرْفة عين، أنّ حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه، والموارثة، وسائر الأحكام غيرهما. فكان معلومًا بذلك أنّ توبته في تلك الحال لو كانت غير مقبولة، لم ينتقل حكمه من حكم الكفار إلى حكم أهل الإسلام، ولا منـزلةَ بين الموت والحياة، يجوزُ أن يقال: " لا يقبل الله فيها توبةَ الكافر ". فإذْ صحّ أنها في حال حياته مقبولة، ولا سبيلَ بعد الممات إليها، بطل قولُ الذي زعم أنها غير مقبولة عند حُضُور الأجل.
* * *
وأما قول من زعم أنّ معنى ذلك: " التوبة التي كانت قبل الكفر "، فقولٌ لا معنى له. لأن الله عز وجل لم يصف القوم بإيمان كان منهم بعد كفر، ثم كُفْر بعد إيمان = بل إنما وصفهم بكفر بعد إيمان. فلم يتقدم ذلك الإيمانَ كفرٌ كان للإيمان لهم توبة منه، فيكون تأويل ذلك على ما تأوّله قائل ذلك. وتأويل القرآن على ما كان موجودًا في ظاهر التلاوة = إذا لم تكن حجة تدل على باطن خاص - أولى من غيره، وإن أمكن توجيهه إلى غيره.
* * *
وأما قوله: " وأولئك هم الضالون "، فإنه يعني بذلك: وهؤلاء الذين كفرُوا بعد إيمانهم، ثم ازدادوا كفرًا، هم الذين ضلوا سبيل الحقّ فأخطأوا منهجه، وتركوا نِصْف السبيل وهُدَى الدين، حَيرةً منهم، وعَمىً عنه. (29)
* * *
وقد بينا فيما مضى معنى " الضلال " بما فيه الكفاية. (30)
---------------------
الهوامش :
(19) في المطبوعة: "أي: ببعض أنبيائه" ، زاد ما ليس في المخطوطة.
(20) الأثر: 7378- في المطبوعة: "عبد الحميد بن بيان اليشكري" ، وهو خطأ والصواب ما أثبت من المخطوطة. وقد مضت الرواية عنه كثيرًا ، ينسبه أحيانًا"السكري" ، وأخرى"القناد" نسبة إلى"القند" ، وهو السكر. وقد مضت ترجمته برقم: 30 ، وسيأتي خطأ مثله في رقم: 7580.
(21) أخشى أن يكون الصواب ، "ولم يتوبوا من الكفر" ، وانظر التالي.
(22) في المطبوعة"بما هم عليه" ، وهو كلام غث. وفي المخطوطة: "ممامهم عليه" غير منقوطة وهذا صواب قراءتها. يقال: و"تم على الشيء تمامًا" ثبت عليه وأقام ، وأمضى أمره فيه.
(23) في المطبوعة والمخطوطة: "نموا على كفرهم" بالنون ، وهو تصحيف. وانظر التعليق السالف.
(24) في المطبوعة"بتصديق ما جاء به من عند الله" وفي المخطوطة"بتصديقه ما جاء به من عند الله" ، وعلى الميم من"ما" فتحة مائلة ، وهي في الحقيقة"باء" ، فصواب قراءة المخطوطة ما أثبت.
(25) في المطبوعة والمخطوطة: "إلا الذين تابوا وأصلحوا..." ، سها الناسخ فأسقط"من بعد ذلك" من الآية ، وهي الآية السابقة. وسياق الكلام: وإذْ كان ذلك كذلك ، وكان من حكم... علم أن المعنى...".
(26) في المطبوعة: "تقبل.. تقبل.." بالتاء ، وما في المخطوطة هو السياق. ومثل ذلك فيما سيلي.
(27) في المطبوعة والمخطوطة: "وما ينكر" بالياء ، وهي بالتاء أجود ، كما يدل عليه الجواب بعد.
(28) في المخطوطة والمطبوعة: "توبتهم من كفرهم" بالجمع ، والسياق ما أثبت ، وهو الصواب. وفي المطبوعة: "أو توبته الأولى" والصواب بالواو كما في المخطوطة. وقوله هذا رد على القائلين بذلك فيما سلف في الأثر: 7382 ، والترجمة التي قبله ، وما قبله من الآثار ، وما يليه في الأثر رقم: 7382.
(29) في المطبوعة: "... وهدى الله الذي أخبرهم عنه فعموا عنه" ، ولم يقل ذلك أبو جعفر! وفي المخطوطة: "وهذي الذي حره منهم وعمى عنه" غير منقوطة ، فلم يستطع الناشر أن يقرأها على وجه صحيح ، ففعل بعبارة الطبري ما فعل ، وبئس ما فعل! وصواب قراءتها ما أثبت. وقوله: "نصف السبيل" ، كان أحب إلى أن أقرأها"قصد السبيل" ، ولكني رجحت أن أبا جعفر يترجم عن معنى قوله تعالى"سواء السبيل" ، وهو وسطه ، وقد بين شرح ذلك في تفسيره فيما مضى 2: 497 ، وقال: "... الذي إذا ركب محجته السائر فيه ، ولزم وسطه المجتاز فيه ، نجا وبلغ حاجته ، وأدرك طلبته" ، ورأيتهم يقولون: "منصف الطريق" (بفتح الميم ، وسكون النون ، وفتح الصاد): وسط الطريق و"نصف الطريق". وجائز أن تكون كانت"منصف الطريق" في كلام الطبري ومهما يكن من شيء ، فهي صحيحة المعنى ، جيدة المجاز في العربية.
(30) انظر ما سلف 1: 189-196 / 2: 496 ، 497 / 6: 66.