تفسير الطبري

تفسير الآية رقم 27 من سورة الروم

وقوله: ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) يقول تعالى ذكره: والذي له هذه الصفات تبارك وتعالى، هو الذي يبدأ الخلق من غير أصل فينشئه ويوجده، بعد أن لم يكن شيئا، ثم يفنيه بعد ذلك، ثم يعيده، كما بدأه بعد فنائه، وهو أهون عليه.
اختلف أهل التأويل في معنى قوله: (وَهُوَ أهْوَنُ عَلَيْهِ) فقال بعضهم: معناه: وهو هين عليه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن سعيد العطار، عن سفيان، عمن ذكره، عن منذر الثوري، عن الربيع بن خيثم (وَهُوَ أهْوَنُ عَلَيْهِ) قال: ما شيء عليه بعزيز.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) يقول: كلّ شيء عليه هين.
وقال آخرون: معناه: وإعادة الخلق بعد فنائهم أهون عليه من ابتداء خلقهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس قوله: (وَهُوَ أهْوَنُ عَلَيْهِ) قال: يقول: أيسر عليه.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) قال: الإعادة أهون عليه من البداءة، والبداءة عليه هين.
حدثني ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن سماك، عن عكرِمة قرأ هذا الحرف ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) قال: تعجب الكفار من إحياء الله الموتى، قال: فنـزلت هذه الآية: ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) إعادة الخلق أهون عليه من إبداء الخلق.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا غندر، عن شعبة، عن سماك، عن عكرِمة، بنحوه. إلا أنه قال: إعادة الخلق أهون عليه من ابتدائه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله: (وَهُوَ أهْوَنُ عَلَيْه) : يقول: إعادته أهون عليه من بدئه، وكلّ على الله هين. وفي بعض القراءة: (وكلٌ على الله هين).
وقد يحتمل هذا الكلام وجهين، غير القولين اللذين ذكرت، وهو أن يكون معناه: &; 20-93 &; وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، وهو أهون على الخلق؛ أي إعادة الشيء أهون على الخلق من ابتدائه. والذي ذكرنا عن ابن عباس في الخبر الذي حدثني به ابن سعد قول أيضا له وجه.
وقد وجَّه غير واحد من أهل العربية قول ذي الرمة:
أخـي قَفَـرَاتٍ دَبَّيَـتْ فِـي عظامـه
شُـفافات أعْجـاز الكَـرَى فهوَ أخْضَعَ (1)
إلى أنه بمعنى خاضع. وقول الآخر:
لَعَمْـــرُكَ إنَّ الزِّبْرَقــانَ لَبــاذِلٌ
لَمعْروفِــه عِنْــدَ السِّـنِينَ وأفْضَـلُ
كَــرِيمٌ لَــه عَـنْ كُـلّ ذَمّ تَـأَخُّرٌ
وفِــي كُــلّ أسْـبابِ المَكـارِمِ أوَّلُ (2)
إلى أنه بمعنى: وفاضل. وقول معن:
لَعَمْــرُكَ مـا أْدِري وإنّـي لأوْجَـلُ
عــلى أيِّنــا تَعْــدُو المَنِيَّـةُ أوَّلُ (3)
إلى أنه بمعنى: وإني لوجل. وقول الآخر:
تَمَنَّـى مُـرَيْءُ القَيْسِ مَوْتي وإنْ أمُتْ
فَتِلــكَ سَـبِيلٌ لَسْـتُ فِيهـا بـأوْحَدِ (4)
إلى أنه بمعنى: لست فيها بواحد. وقول الفرزدق:
إنَّ الَّـذِي سَـمَكَ السَّـماءَ بَنـى لَنـا
بَيْتــا دَعائمُــهُ أعَــزُّ وأطْــوَلُ (5)
إلى أنه بمعنى: عزيزة طويلة.
قالوا: ومنه قولهم في الأذان: الله أكبر؛ بمعنى: الله كبير؛ وقالوا: إن قال قائل: إن الله لا يوصف بهذا، وإنما يوصف به الخلق، فزعم أنه وهو أهون على الخلق، فإن الحجة عليه قول الله: وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ، وقوله: وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا أي: لا يثقله حفظهما.
وقوله: (وَلَهُ المَثَلُ الأعْلَى) يقول: ولله المثل الأعلى في السماوات والأرض، وهو أنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له، ليس كمثله شيء، فذلك المثل الأعلى، تعالى ربنا وتقدّس.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس قوله: (وَلَهُ المَثَلُ الأعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ) يقول: ليس كمثله شيء.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله: (وَلَهُ المَثَلُ الأعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ والأرْضِ) مثله أنه لا إله إلا هو، ولا ربّ غيره.
وقوله: (وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) يقول تعالى ذكره: وهو العزيز في انتقامه من أعدائه، الحكيم في تدبيره خلقه، وتصريفهم فيما أراد من إحياء وإماتة، وبعث ونشر، وما شاء.
---------------------
الهوامش:
(1) البيت في ديوان ذي الرمة (طبع جامعة كيمبردج سنة 1919 ص 348). قال في شرحه: شفافات: بقايا أعجاز الكرى، أواخر النوم، فاستعار له المنهل. فكأنه قد سكر، فهو أخضع.
(2) البيتان لم أقف على قائلهما. والزبرقان بن بدر من سادات بني تميم. والسنون جمع سنة، والمراد بها الجدب والقحط. والشاهد في قول الشاعر "وأفضل" فإنه بمعنى "فاضل" ولا تفضيل فيه، كما قال المؤلف: على أنه يمكن تخريج البيت على معنى التفضيل، كما يأتي في الشواهد الأخرى، أي وهو أفضل من غيره على كل حال.
(3) البيت لمعن بن أوس المزني (ذيل الأمالي لأبي علي القالي ص 218). واستشهد به المؤلف على أن قوله: "لأوجل": أي لوجل، وانظر شرح البيت وإعرابه في خزانة الأدب الكبرى للبغدادي (3 : 505 - 506).
(4) البيت لمالك بن القين الخزرجي الأنصاري، حققه الأستاذ عبد العزيز الميمني في شرح ذيل الأمالي ص 104 (وهو من ثلاثة أبيات كتب بها يزيد بن عبد الملك إلى أخيه هشام وقد بلغه أنه يتمنى موته. وقيل: كتب بها الوليد إلى أخيه سليمان) كما في مروج الذهب للمسعودي (ورواية صدر البيت الأول مخالفة لما في ذيل الأمالي ص 218) والأبيات الثلاثة هي:
تَمَنَّـى رِجَـالٌ أَنْ أَمُـوتَ وَإِنْ أَمُـتْ
فَتِلْــكَ سَـبِيلٌ لَسْـتُ فِيهَـا بِـأَوْحَدِ
فَمَـا عَيْشُ مَـنْ يَرْجُو رَدَايَ بِضَائرِي
وَمَـا عَيْشُ مَـنْ يَرْجُـو رَدَايَ بِمُخْلَدِ
فَقُـلْ للَّـذِي يَبْغـي خِلافَ الَّذِي مَضَى
تَجَــهَّزْ لأُخْـرَى مِثْلِهَـا فَكَـأَنْ قَـدِ
وقوله: "خلاف الذي مضى": يريد: أن يخلف على ميراثه أو محله. وقد استشهد المؤلف على أن قوله "بأوحد" معناه واحد، مثل قول الله تعالى: (وهو أهون عليه): أي هين عليه، فالصيغة وإن كانت صيغة أفعل التي للتفضيل إلا أنه لا تفضيل هنا، وإنما هو لمجرد الوصف بدون تفضيل. وإنما ذكر يزيد هذه الأبيات على سبيل التمثل بها وليست من شعره. قال القالي: فرد عليه هشام بيتين وهما:
وَمَـنْ لا يُغْمِـض عَيْنَـهُ عَنْ صَـدِيقِهِ
وَعَـنْ بَعْـضِ مَا فِيهِ يَمُتْ وَهُوَ عَاتِبُ
وَمَــنْ يَتَتَبَّــعْ جَـاهِدًا كُـلَّ عَـثْرَةٍ
يَجِدْهَـا وَلا يَسْـلَمْ لَـهُ الدَّهْرَ صَاحِبُ
ثم قال: فرد عليه يزيد بقصيدة معن بن أوس التي يقول فيها:
لَعَمْــرُكَ مـا أدْرِي وَإِنّـي لأَوْجَـلُ
عَــلى أينــا تَعْــدُو المَنِيَّـةُ أوَّلُ
وقد بين البغدادي في خزانة الأدب الكبرى (500 - 502) أن هذا الشاهد وما ماثله يمكن أن يحمل على التفضيل لا على مجرد الوصف، فراجعه ثمة.
(5) البيت للفرزدق (ديوانه طبعة الصاوي بالقاهرة ص 714) وهو من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 187 - ب) قال أبو عبيدة: أي عزيزة طويلة. فإن احتج فقال: إن الله عز وجل لا يوصف بهذا، وإنما يوصف الخلق، فزعم أن (وهو أهون عليه) على الخلق؛ فإن الحجة عليه قول الله عز وجل: (وكان ذلك على الله يسيرًا). وفي آية أخرى: (ولا يئوده حفظهما) أي لا يثقله.