تفسير الطبري
تفسير الآية رقم 15 من سورة الفتح
القول في تأويل قوله تعالى : سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلا قَلِيلا (15)
يقول تعالى ذكره لنييه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: سيقول يا محمد المخلفون في أهليهم عن صحبتك إذا سرت معتمرا تريد بيت الله الحرام, إذا انطلقت أنت ومن صحبك في سفرك ذلك إلى ما أفاء الله عليك وعليهم من الغنيمة ( لِتَأْخُذُوهَا ) وذلك ما كان الله وعد أهل الحديبية من غنائم خيبر ( ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ) إلى خيبر, فنشهد معكم قتال أهلها( يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ ) يقول: يريدون أن يغيروا وعد الله الذي وعد أهل الحديبية, وذلك أن الله جعل غنائم خيبر لهم, ووعدهم ذلك عوضا من غنائم أهل مكة إذا انصرفوا عنهم على صلح, ولم يصيبوا منهم شيئا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: رجع, يعني رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عن مكة, فوعده الله مغانم كثيرة, فعجلت له خيبر, فقال المخلفون ( ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ ) وهي المغانم ليأخذوها, التي قال الله جلّ ثناؤه ( إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ) وعرض عليهم قتال قوم أولي بأس شديد.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن رجل من أصحابه, عن مقسم قال: لما وعدهم الله أن يفتح عليهم خيبر, وكان الله قد وعدها من شهد الحديبية لم يعط أحدا غيرهم منها شيئا, فلما علم المنافقون أنها الغنيمة قالوا( ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ ) يقول: ما وعدهم.
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ ).... الآية, وهم الذين تخلفوا عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من الحديبية. ذُكر لنا أن المشركين لما صدّوا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من الحديبية عن المسجد الحرام والهدي, قال المقداد: يا نبيّ الله, إنا والله لا نقول كالملأ من بني إسرائيل إذ قالوا لنبيهم فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون; فلما سمع ذلك أصحاب نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم تبايعوا على ما قال; فلما رأى ذلك نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم صالح قريشا, ورجع من عامه ذلك ".
وقال آخرون: بل عنى بقوله ( يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ ) إرادتهم الخروج مع نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في غزوه, وقد قال الله تبارك وتعالى فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا .
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ )... الآية, قال الله عزّ وجلّ حين رجع من غزوه, فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا .... الآية يريدون أن يبدّلوا كلام الله: أرادوا أن يغيروا كلام الله الذي قال لنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ويخرجوا معه وأبى الله ذلك عليهم ونبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وهذا الذي قاله ابن زيد قول لا وجه له, لأن قول الله عزّ وجلّ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إنما نـزل على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم مُنْصَرَفَه من تَبوك, وعُنِي به الذين تخلَّفوا عنه حين توجه إلى تبوك لغزو الروم, ولا اختلاف بين أهل العلم بمغازي رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن تبوك كانت بعد فتح خيبر وبعد فتح مكة أيضا, فكيف يجوز أن يكون الأمر على ما وصفنا معنيا بقول الله ( يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ ) وهو خبر عن المتخلفين عن المسير مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم, إذ شخص معتمرا يريد البيت, فصدّه المشركون عن البيت, الذين تخلَّفوا عنه في غزوة تبوك, وغزوة تبوك لم تكن كانت يوم نـزلت هذه الآية, ولا كان أُوحِيَ إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قوله فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا .
فإذ كان ذلك كذلك, فالصواب من القول في ذلك: ما قاله مجاهد وقتادة على ما قد بيَّنا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله ( يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة, وبعض قرّاء الكوفة ( كَلامَ اللهِ ) على وجه المصدر, بإثبات الألف. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة ( كَلِمَ اللهِ ) بغير ألف, بمعنى جمع كلمة, وهما عندنا قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار, متقاربتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب, وإن كنتُ إلى قراءته بالألف أَمْيل.
وقوله ( قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل لهؤلاء المخلفين عن المسير معك يا محمد: لن تتبعونا إلى خيبر إذا أردنا السير إليهم لقتالهم ( كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ ) يقول: هكذا قال الله لنا من قبل مَرْجِعنا إليكم, إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية معنا, ولستم ممن شهدها, فليس لكم أن تَتَّبعونا إلى خيبر, لأن غنيمتها لغيركم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ ) أي إنما جعلت الغنيمة لأهل الجهاد, وإنما كانت غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ليس لغيرهم فيها نصيب.
وقوله ( فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا ) أن نصيب معكم مغنما إن نحن شهدنا معكم, فلذلك تمنعوننا من الخروج معكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا ) أن نصيب معكم غنائم.
وقوله ( بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلا قَلِيلا ) يقول تعالى ذكره لنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وأصحابه: ما الأمر كما يقول هؤلاء المنافقون من الأعراب من أنكم إنما تمنعونهم من اتباعكم حسدا منكم لهم على أن يصيبوا معكم من العدوّ مغنما, بل كانوا لا يفقهون عن الله ما لهم وعليهم من أمر الدين إلا قليلا يسيرا, ولو عقلوا ذلك ما قالوا لرسول الله والمؤمنين به, وقد أخبروهم عن الله تعالى ذكره أنه حرمهم غنائم خيبر, إنما تمنعوننا من صحبتكم إليها لأنكم تحسدوننا.