تفسير الطبري

تفسير الآية رقم 119 من سورة المائدة

القول في تأويل قوله : قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة قوله: " هذا يوم ينفع الصادقين ". فقرأ ذلك بعض أهل الحجاز والمدينة: (هَذَا يَوْمَ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ)، بنصب " يوم ".
* * *
وقرأه بعض أهل الحجاز وبعض أهل المدينة، وعامة قرأة أهل العراق: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ ، برفع " يوم ". فمن رفعه رفعه ب " هذا ", وجعل " يوم " اسمًا, وإن كانت إضافته غير محضة, لأنه قد صار كالمنعوت. (27) وكان بعض أهل العربية يزعم أن العرب يعملون في إعراب الأوقات مثل " اليوم " و " الليلة "، عملهم فيما بعدها. إن كان ما بعدها رفعًا رفعوها, كقولهم: " هذا يومُ يركب الأمير ", و " ليلةُ يصدر الحاج ", و " يومُ أخوك منطلق ". وإن كان ما بعدها نصبًا نصبوها, وذلك كقولهم: " هذا يومَ خرج الجيش، وسار الناس ", و " ليلةَ قتل زيد "، ونحو ذلك, وإن كان معناها في الحالين " إذ " و " إذا ".
* * *
وكأن من قرأ هذا هكذا رفعًا، وجَّه الكلام إلى أنه من قيل الله يوم القيامة.
* * *
وكذلك كان السدي يقول في ذلك.
13039 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي قال الله: " هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم " ، هذا فصل من كلام عيسى, وهذا يوم القيامة.
* * *
يعني السدي بقوله: " هذا فصل من كلام عيسى " : أن قوله: سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إلى قوله: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، من خبر الله عز وجل عن عيسى أنه قاله في الدنيا بعد أن رفعه إليه, وأن ما بعد ذلك من كلام الله لعباده يوم القيامة.
* * *
وأما النصب في ذلك, فإنه يتوجه من وجهين:
أحدهما: أن إضافة " يوم " ما لم تكن إلى اسم، تجعله نصبًا, لأن الإضافة غير محضة, وإنما تكون الإضافة محضة، إذا أضيف إلى اسم صحيح. ونظير " اليوم " في ذلك: " الحين " و " الزمان "، وما أشبههما من الأزمنة, كما قال النابغة:
عَـلَى حِيْنَ عَاتَبْتُ المَشِيبَ عَلَى الصِّبَا
وَقُلْـتُ ألَمَّـا تَصْـحُ وَالشَّـيْبُ وَازِعُ (28)
والوجه الآخر: أن يكون مرادًا بالكلام: هذا الأمر وهذا الشأن, يومَ ينفع الصادقين = فيكون " اليوم " حينئذ منصوبًا على الوقت والصفة, بمعنى: هذا الأمر في يوم ينفع الصادقين صدقهم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب: ( هَذَا يَوْمَ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ) ، بنصب " اليوم "، على أنه منصوب على الوقت والصفة. لأن معنى الكلام: إنّ الله جل وتعالى ذكره أجاب عيسى حين قال: سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ، إلى قوله: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، فقال له عز وجل: هذا القولُ النافعُ = أو هذا الصدق النافع = يوم ينفع الصادقين صدقهم. ف " اليوم " وقت القول والصدق النافع.
* * *
فإن قال قائل: فما موضع " هذا "؟
قيل: رفع.
فإن قال: فأين رَافعه؟
قيل: مضمر. وكأنه قال: قال الله عز وجل: هذا, هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم, كما قال الشاعر: (29)
أَمَـا تَـرَى السَّـحَابَ كَـيْفَ يَجْرِي ?
هــذا, وَلا خَــيْلُكَ يَـا ابْـن بِشْـرِ
يريد: هذا هذا, ولا خيلك.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام، إذ كان الأمر على ما وصفنا لما بينا: قال الله لعيسى: هذا القول النافع في يوم ينفع الصادقين في الدنيا صدقهم ذلك، في الآخرة عند الله = لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ، يقول: للصادقين في الدنيا، جنات تجري من تحتها الأنهار في الآخرة، ثوابًا لهم من الله عز وجل على ما كان من صدقهم الذي صدقوا الله فيما وعدوه, فوفوا به لله, فوفى الله عز وجل لهم ما وعدهم من ثوابه = خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ، يقول: باقين في الجنات التي أعطاهموها =" أبدًا "، دائمًا، لهم فيها نعيم لا ينتقل عنهم ولا يزول. (30)
* * *
وقد بينا فيما مضى أن معنى " الخلود "، الدوام والبقاء. (31)
* * *
القول في تأويل قوله : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: رَضي الله عن هؤلاء الصادقين الذين صدقوا في الوفاء له بما وعدوه، من العمل بطاعته واجتناب معاصيه =" ورضوا عنه " ، يقول: ورضوا هم عن الله تعالى ذكره في وفائه لهم بما وعدهم على طاعتهم إياه فيما أمرهم ونهاهم، من جزيل ثوابه (32) =" ذلك الفوز العظيم "، يقول: هذا الذي أعطاهم الله من الجنات التي تجري من تحتها الأنهار, خالدين فيها, مرضيًّا عنهم وراضين عن ربهم, هو الظفر العظيم بالطَّلِبة، (33) وإدراك الحاجة التي كانوا يطلبونها في الدنيا, ولها كانوا يعملون فيها, فنالوا ما طلبوا، وأدركوا ما أمَّلوا.
---------------------
الهوامش :
(27) في المطبوعة: "لأنه صار" ، أسقط"قد".
(28) ديوانه: 38 ، ومعاني القرآن للفراء 1: 327 ، وسيبويه 1: 369 ، والخزانة 3: 151 والعيني (هامش الخزانة) 3 : 406/ 4 : 357 ، وسيأتي في هذا التفسير 19: 88/ ثم 30 : 57 ، (بولاق) ، ورواية أبي جعفر هنا"ألما تصح" كرواية الفراء ، وفي سائر المراجع"ألما أصح". وهما روايتان صحيحتا المعنى.
وهذا البيت من قصيدته التي قالها معتذرا إلى النعمان بن المنذر ، متنصلا مما قذفه به مرة بن ربيعة عند النعمان ، يقول قبله:
فَكَفْكَــفْتُ مِنِّــي عَـبْرَةً فَرَدَدْتُهَـا
عـلى النَّحْـرِ، مِنْهـا مُسْـتَهِلٌّ ودامِعٌ
يقول: عاقبت نفسي على تشوقها إلى ما فات من صباي ، فقد شبت وشابت لداتي ، وقلت لنفسي: ألم تفق بعد من سكرة الصبا ، وعهد الناس بالمشيب أنه يكف من غلواء الشباب!
(29) لم أعرف هذا الراجز
(30) انظر تفسير"أبدًا" فيما سلف 9: 227/10: 185.
(31) انظر فهارس اللغة فيما سلف (خلد).
(32) انظر تفسير"الرضا" فيما سلف 6 : 262/9 : 480/10 : 144.
(33) انظر تفسير"الفوز". فيما سلف 7: 452 ، 472/8 : 71 .