تفسير الطبري

تفسير الآية رقم 18 من سورة المائدة

القول في تأويل قوله عز ذكره : وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل وعز عن قوم من اليهود والنصارى أنهم قالوا هذا القول.
* * *
وقد ذكر عن ابن عباس تسمية الذين قالوا ذلك من اليهود.
11613 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نعمانُ بن أضَاء (1) وبحريّ بن عمرو، وشأس بن عدي، فكلموه، فكلّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى الله وحذّرهم نقمته، فقالوا: ما تُخَوّفنا، يا محمد!! نحن والله أبناء الله وأحبَّاؤه!! (2) = كقول النصارى، فأنـزل الله جل وعز فيهم: " وقالت اليهودُ والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه "، إلى آخر الآية. (3)
* * *
وكان السدي يقول في ذلك بما:
11614 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه "، أما " أبناء الله "، فإنهم قالوا: إن الله أوحى إلى إسرائيل أن ولدًا من ولدك، (4) أدخلهم النار، فيكونون فيها أربعين يومًا حتى تطهرهم وتأكل خطاياهم، ثم ينادي منادٍ: أن أخرجوا كل مختون من ولدِ إسرائيل، فأخرجهم. فذلك قوله: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [سورة آل عمران: 24]. وأما النصارى، فإن فريقًا منهم قال للمسيح: ابن الله. (5)
* * *
والعرب قد تخرج الخبرَ، إذا افتخرت، مخرجَ الخبر عن الجماعة، وإن كان ما افتخرت به من فعل واحد منهم، فتقول: " نحن الأجواد الكرام "، وإنما الجواد فيهم واحدٌ منهم، وغير المتكلِّم الفاعلُ ذلك، كما قال جرير:
نَدَسْــنَا أَبَـا مَنْدُوسَـةَ القَيْـنَ بِالقَنَـا
وَمَــارَ دَمٌ مِـنْ جَـارِ بَيْبَـةَ نَـاقعُ (6)
فقال: " نَدَسْنَا "، وإنما النادس رجل من قوم جريرٍ غيرُه، فأخرج الخبر مخرج الخبر عن جماعة هو أحدهم. فكذا أخبر الله عزّ ذكره عن النصارى أنها قالت ذلك، على هذا الوجه إن شاء الله.
* * *
وقوله: " وأحباؤه "، وهو جمع " حبيب ".
* * *
يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: " قل " لهؤلاء الكذبة المفترين على ربهم=" فلم يعذبكم " ربكم، يقول: فلأي شيء يعذبكم ربكم بذنوبكم، إن كان الأمر كما زعمتم أنكم أبناؤه وأحبّاؤه، فإن الحبيب لا يعذِّب حبيبه، وأنتم مقرُّون أنه معذبكم؟ وذلك أن اليهود قالت: إن الله معذبنا أربعين يومًا عَدَد الأيام التي عبدنا فيها العجل، (7) ثم يخرجنا جميعًا منها، فقال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم: إن كنتم، كما تقولون، أبناءُ الله وأحباؤه، فلم يعذبكم بذنوبكم؟ يعلمهم عز ذكره أنَّهم أهل فرية وكذب على الله جل وعز.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمّدٍ صلى الله عليه وسلم، قل لهم: ليس الأمر كما زعمتم أنكم أبناء الله وأحباؤه=" بل أنتم بشر ممن خلق "، يقول: خلق من بني آدم، خلقكم الله مثل سائر بني آدم، (8) إن أحسنتم جُوزيتم بإحسانكم، كما سائر بني آدم مجزيُّون بإحسانهم، وإن أسأتم جوزيتم بإساءتكم، كما غيركم مجزيٌّ بها، ليس لكم عند الله إلا ما لغيركم من خلقه، فإنه يغفر لمن يشاء من أهل الإيمان به ذنوبَه، فيصفح عنه بفضله، ويسترها عليه برحمته، فلا يعاقبه بها.
* * *
وقد بينا معنى " المغفرة "، في موضع غير هذا بشواهده، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (9) .
* * *
=" ويعذب من يشاء " يقول: ويعدل على من يشاء من خلقه فيعاقبه على ذنوبه، ويفضَحه بها على رءوس الأشهاد فلا يسترها عليه.
* * *
وإنما هذا من الله عز وجل وعيد لهؤلاء اليهود والنصارى المتّكلين على منازل سَلَفهم الخيارِ عند الله، الذين فضلهم الله جل وعز بطاعتهم إياه، واجتباهم لمسارعتهم إلى رضاه، (10) واصطبارهم على ما نابهم فيه. (11) يقول لهم: لا تغتروا بمكان أولئك مني ومنازلهم عندي، فإنهم إنما نالوا ما نالوا منّي بالطاعة لي، وإيثار رضاي على محابِّهم= (12) لا بالأماني، فجدُّوا في طاعتي، وانتهوا إلى أمري، وانـزجروا عما نهيتُهم عنه، فإني إنما أغفر ذنوب من أشاء أن أغفر ذنوبه من أهل طاعتي، وأعذّب من أشاء تعذيبه من أهل معصيتي= (13) لا لمن قرَّبتْ زُلْفَةُ آبائه مني، وهو لي عدوّ، ولأمري ونهيي مخالفٌ.
* * *
وكان السدي يقول في ذلك بما:-
11615 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: " يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء "، يقول: يهدي منكم من يشاء في الدنيا فيغفر له، ويميت من يشاء منكم على كفره فيعذِّبه.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
قال أبو جعفر يقول: لله تدبيرُ ما في السموات وما في الأرض وما بينهما، وتصريفُه، وبيده أمره، وله ملكه، (14) يصرفه كيف يشاء، ويدبره كيف أحبّ، (15) لا شريك له في شيء منه، ولا لأحدٍ معهُ فيه ملك. فاعلموا أيها القائلون: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ، أنه إن عذبكم بذنوبكم، لم يكن لكم منه مانع، ولا لكم عنه دافع، لأنه لا نسب بين أحد وبينه فيحابيه لسبب ذلك، ولا لأحد في شيء دونه ملك، فيحول بينه وبينه إن أراد تعذيبه بذنوبه، (16) وإليه مصير كل شيء ومرجعه. فاتَّقوا أيها المفترون، عقابَه إياكم على ذنوبكم بعد مرجعكم إليه، ولا تغتروا بالأمانيّ وفضائل الآباء والأسلاف.
-------------------------
الهوامش :
(1) في المطبوعة: "نعمان بن أحي ، ويحرى بن عمرو.." ، وفي المخطوطة: "عثمان بن أصار ويحوى بن عمرو..." ، وكلاهما خطأ ، وصوابه من سيرة ابن هشام.
(2) في المخطوطة: "نحن أبناء الله وأحباءه ، بل أنتم بشر ممن خلق" ، وهو من عجلة الناسخ لا شك في ذلك.
(3) الأثر: 11613- سيرة ابن هشام 2: 212 ، وهو تابع الأثر السالف رقم: 11557.
(4) في المخطوطة: "إلى بني إسرائيل إن ولدك من الولد فأدخلهم النار" ، وهو خلط بلا معنى ، صوابه ما في المطبوعة على الأرجح.
(5) الأثر: 11614- لم يمض هذا الأثر في تفسير آية سورة البقرة: 80 (2: 274-278) ، ولا آية سورة آل عمران: 24 (6: 292 ، 293). وهذا أيضا من الأدلة على اختصار أبي جعفر تفسيره.
(6) ديوانه: 372 ، والنقائض: 693 ، واللسان (بيب) (مور) (ندس). و"ندس": طعن طعنًا خفيفًا. و"أبو مندوسة" ، هو مرة بن سفيان بن مجاشع ، جد الفرزذق. قتلته بنو يربوع -قوم جرير- في يوم الكلاب الأول. و"القين" لقب لرهط الفرزدق ، يهجون به. و"جاربيبة" ، هو الصمة بن الحارث الجشمي ، قتله ثعلبة بن حصبة ، وهو في جوار الحارث بن بيبة بن قرط بن سفيان بن مجاشع ، من رهط الفرزدق. و"مار الدم على وجه الأرض": جرى وتحرك فجاء وذهب. و"دم ناقع" ، أي: طري لم ييبس.
(7) انظر ما سلف 6: 292.
(8) انظر تفسير"بشر" فيما سلف 6: 538.
(9) انظر ما سلف 2: 109 ، 110 ، ثم سائر فهارس اللغة.
(10) في المطبوعة: "واجتنابهم معصيته لمسارعتهم" ، لم يحسن قراءة المخطوطة ، لأنها غير منقوطة ، وزاد"معصيته" لتستقيم له قراءته. و"الاجتباء": الاصطفاء والاختيار.
(11) في المخطوطة: "إلى ما نابهم فيه" ، والجيد ما في المطبوعة.
(12) يقول: "نالوا ما نالوا مني بالطاعة لي.. لا بالأماني". هكذا السياق.
(13) يقول: "فإني أغفر ذنوب من أشاء.. لا لمن قربت زلفة آبائه مني" ، هكذا السياق.
(14) انظر تفسير نظيرة هذه الآية فيما سلف قريبا ص: 148 ، تعليق: 1 ، والمراجع هناك.
(15) في المطبوعة: "كيف أحبه" ، وأثبت الجيد من المخطوطة.
(16) في المطبوعة: "بذنبه" ، وفي المخطوطة: "بدونه" ، ورجحت ما أثبت.