تفسير الطبري

تفسير الآية رقم 128 من سورة الأنعام

القول في تأويل قوله تعالى : وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنْسِ
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (ويوم يحشرهم جميعًا) ، ويوم يحشر هؤلاء العادلين بالله الأوثانَ والأصنامَ وغيرَهم من المشركين، مع أوليائهم من الشياطين الذين كانوا يُوحون إليهم زخرف القول غرورًا ليجادلوا به المؤمنين, فيجمعهم جميعًا في موقف القيامة (30) = يقول للجن: (يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس)، وحذف " يقول للجن " من الكلام، اكتفاءً بدلالة ما ظهر من الكلام عليه منه .
* * *
وعنى بقوله: (قد استكثرتم من الإنس)، استكثرتم من إضلالهم وإغوائهم ، كما:-
13885- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ويوم يحشرهم جميعًا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس)، يعني: أضللتم منهم كثيرًا .
13886- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: (يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس)، قال: قد أضللتم كثيرًا من الإنس .
13887- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: (قد استكثرتم من الإنس)، قال: كثُر من أغويتم .
13888- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .
13889- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان, عن معمر, عن الحسن: (قد استكثرتم من الإنس)، يقول: أضللتم كثيرًا من الإنس .
* * *
القول في تأويل قوله : وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فيجيب أولياءُ الجن من الإنس فيقولون: " ربنا استمتع بعضنا ببعض " في الدنيا . (31) فأما استمتاع الإنس بالجن, فكان كما:-
13890- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: (ربنا استمتع بعضنا ببعض)، قال: كان الرجل في الجاهلية ينـزل الأرض فيقول: " أعوذ بكبير هذا الوادي" ، فذلك استمتاعهم, فاعتذروا يوم القيامة .
* * *
= وأما استمتاع الجن بالإنس, فإنه كان، فيما ذكر, ما ينال الجنَّ من الإنس من تعظيمهم إيّاهم في استعاذتهم بهم, فيقولون: " قد سدنا الجِنّ والحِنّ" (32)
* * *
القول في تأويل قوله : وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قالوا: بلغنا الوقتَ الذي وقَّتَّ لموتنا . (33) وإنما يعني جل ثناؤه بذلك: أنهم قالوا: استمتع بعضنا ببعض أيّام حياتنا إلى حال موتنا . كما:-
13891- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما قوله: (وبلغنا أجلنا الذي أجَّلتَ لنا)، فالموت .
* * *
القول في تأويل قوله : قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عمّا هو قائل لهؤلاء الذين يحشرهم يوم القيامة من العادلين به في الدنيا الأوثان، ولقُرَنائهم من الجن, فأخرج الخبر عما هو كائنٌ، مُخْرَج الخبر عما كان، لتقدُّم الكلام قبلَه بمعناه والمراد منه, فقال: قال الله لأولياء الجن من الإنس الذين قد تقدَّم خبرُه عنهم: (النار مثواكم)، يعني نار جهنم =" مثواكم "، الذي تثوون فيه، أي تقيمون فيه .
* * *
و " المثوى " هو " المَفْعَل " من قولهم: " ثَوَى فلان بمكان كذا ", إذا أقام فيه . (34)
=(خالدين فيها)، يقول: لابثين فيها (35) =(إلا ما شاء الله)، يعني إلا ما شاء الله من قَدْر مُدَّة ما بين مبعثهم من قبورهم إلى مصيرهم إلى جهنم, فتلك المدة التي استثناها الله من خلودهم في النار =(إن ربك حكيم)، في تدبيره في خلقه, وفي تصريفه إياهم في مشيئته من حال إلى حال، وغير ذلك من أفعاله =(عليم)، بعواقب تدبيره إياهم, (36) وما إليه صائرةُ أمرهم من خير وشر . (37)
* * *
وروي عن ابن عباس أنه كان يتأول في هذا الاستثناء: أنّ الله جعل أمرَ هؤلاء القوم في مبلغ عَذَابه إيّاهم إلى مشيئته .
13892- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: (قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم)، قال: إن هذه الآية: آيةٌ لا ينبغي لأحدٍ أن يحكم على الله في خلقه، أن لا ينـزلهم جنَّةً ولا نارًا . (38)
----------------------
الهوامش :
(30) انظر تفسير (( الحشر )) فيما سلف ص : 50 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(31) انظر تفسير (( الاستمتاع )) فيما سلف 8 : 175 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(32) في المطبوعة : (( قد سدنا الجن والإنس )) ، غير ما في المخطوطة ، لم يحسن قراءتها لأنها غير منقوطة . وأثبت ما في المخطوطة . و (( الحن )) ( بكسر الحاء ) ، حي من أحياء الجن ، وقد سلف بيان ذلك في الجزء 1 : 455 ، تعليق : 1 ، فراجعه هناك . انظر معاني القرآن للفراء 1 : 354 ، والذي هناك مطابق لما في المطبوعة .
(33) انظر تفسير (( الأجل )) فيما سلف ص : 11 : 259 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(34) انظر تفسير (( المثوى )) فيما سلف 7 : 279 .
(35) انظر تفسير (( الخلود )) فيما سلف من فهارس اللغة ( خلد ) .
(36) انظر تفسير (( حكيم )) و (( عليم )) فيما سلف من فهارس اللغة ( حكم ) و ( علم ) .
(37) في المطبوعة : (( صائر )) بغير تاء في آخره ، والصواب ما في المخطوطة . (( صائرة )) مثل (( عاقبة )) لفظًا ومعنى ، ومنه قبل : (( الصائرة ، ما يصير إليه النبات من اليبس )) .
(38) في المطبوعة : (( أن لا ينزلهم )) فزاد (( أن )) ، فأفسد المعنى إفسادًا حتى ناقض بعضه بعضًا . وإنما قوله : (( لا ينزلهم جنة ولا نارًا )) ، نهى للناس أن يقول : (( فلان في الجنة )) و (( فلان في النار )) . (( ينزلهم )) مجزومة اللام بالناهية .