تفسير الطبري

تفسير الآية رقم 151 من سورة الأنعام

القول في تأويل قوله : قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام, الزاعمين أن الله حرم عليهم ما هم محرِّموه من حروثهم وأنعامهم, على ما ذكرت لك في تنـزيلي عليك =: تعالوا، أيها القوم، (12) أقرأ عليكم ما حرم ربكم حقًا يقينًا, (13) لا الباطل تخرُّصًا، تخرُّصَكم على الله الكذبَ والفريةَ ظنًّا, (14) ولكن وحيًا من الله أوحاه إليّ, وتنـزيلا أنـزله عليّ: أن لا تشركوا بالله شيئًا من خلقه، ولا تعدلوا به الأوثان والأصنام، ولا تعبدوا شيئًا سواه =(وبالوالدين إحسانًا)، يقول: وأوصى بالوالدين إحسانًا = وحذف " أوصى " و " أمر "، لدلالة الكلام عليه ومعرفة السامع بمعناه. (15) وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى من الكتاب . (16)
* * *
وأما " أن " في قوله: (أن لا تشركوا به شيئًا)، فرفعٌ, لأن معنى الكلام: قل تعالوا أتلُ ما حرّم ربكم عليكم, هو أن لا تشركوا به شيئًا .
وإذا كان ذلك معناه, كان في قوله: (تشركوا)، وجهان:
= الجزم بالنهي, وتوجيهه " لا " إلى معنى النهي .
= والنصب، على توجيه الكلام إلى الخبر, ونصب " تشركوا "، بـ" أن لا "، كما يقال: " أمرتك أن لا تقوم ".
وإن شئت جعلت " أن " في موضع نصبٍ، ردًّا على " ما " وبيانًا عنها, ويكون في قوله: (تشركوا)، أيضًا من وجهي الإعراب، نحو ما كان فيه منه. و " أن " في موضع رفع.
ويكون تأويل الكلام حينئذ: قل: تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم, أتلُ أن لا تشركوا به شيئًا .
* * *
فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يكون قوله (تشركوا) نصبًا بـ" أن لا ", أم كيف يجوز توجيه قوله: " ألا تشركوا به ", على معنى الخبر, وقد عطف عليه بقوله: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ ، وما بعد ذلك من جزم النهي؟ قيل: جاز ذلك، كما قال تعالى ذكره: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ، فجعل " أن أكون " خبرًا، و " أنْ" اسمًا, ثم عطف عليه وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، [سورة الأنعام: 14], (17) وكما قال الشاعر: (18)
حَــجَّ وَأوْصَــى بِسُـلَيْمَى الأعْبُـدَا
أَنْ لا تَـــرَى وَلا تُكَـــلِّمْ أَحَــدَا
وَلا يَزَلْ شَرَابُهَا مُبَرَّدَا (19)
فجعل قوله: " أن لا ترى " خبرًا, ثم عطف بالنهي فقال: " ولا تكلم "," ولا يزل " .
* * *
القول في تأويل قوله : وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق)، ولا تئدوا أولادكم فتقتلوهم من خشية الفقر على أنفسكم بنفقاتهم, فإن الله هو رازقكم وإياهم, ليس عليكم رزقهم, فتخافوا بحياتهم على أنفسكم العجزَ عن أرزاقهم وأقواتهم .
* * *
و " الإملاق "، مصدر من قول القائل: " أملقت من الزاد, فأنا أملق إملاقًا ", وذلك إذا فني زاده، وذهب ماله، وأفلس .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
* ذكر من قال ذلك:
14135- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق)، الإملاق الفقر, قتلوا أولادهم خشية الفقر .
14136- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة في قوله: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق)، أي خشية الفاقة.
14137- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق)، قال: " الإملاق "، الفقر .
14138- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قوله: (من إملاق)، قال: شياطينهم، يأمرونهم أن يئِدوا أولادهم خيفة العَيْلة .
14139- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان, عن الضحاك في قوله: (من إملاق)، يعني: من خشية فقر .
* * *
القول في تأويل قوله : وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولا تقربوا الظاهرَ من الأشياء المحرّمة عليكم، (20) التي هي علانية بينكم لا تناكرون ركوبها, والباطنَ منها الذي تأتونه سرًّا في خفاء لا تجاهرون به, فإن كل ذلك حرام . (21)
* * *
وقد قيل : إنما قيل: لا تقربوا ما ظهر من الفواحش وما بطن, لأنهم كانوا يستقبحون من معاني الزنى بعضًا [دون بعض].
وليس ما قالوا من ذلك بمدفوع, غير أن دليل الظاهر من التنـزيل على النهي عن ظاهر كل فاحشة وباطنها, ولا خبر يقطع العذرَ، بأنه عنى به بعض دون جميع. وغير جائز إحالة ظاهر كتاب الله إلى باطن، إلا بحجة يجب التسليم لها .
* * *
* ذكر من قال ما ذكرنا من قول من قال: الآية خاصُّ المعنى:
14140- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن)، أما " ما ظهر منها "، فزواني الحوانيت, وأما " ما بطن "، فما خَفِي . (22)
14141- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان, عن الضحاك قوله: (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن)، كان أهل الجاهلية يستسرُّون بالزنى, ويرون ذلك حلالا ما كان سرًّا. فحرّم الله السر منه والعلانية =(ما ظهر منها)، يعني: العلانية =(وما بطن)، يعني: السر . (23)
14142- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن)، قال: كانوا في الجاهلية لا يرون بالزنى بأسًا في السر، ويستقبحونه في العلانية, فحرَّم الله الزنى في السرّ والعلانية .
* * *
وقال آخرون في ذلك بمثل الذي قلنا فيه .
* ذكر من قال ذلك:
14143- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن)، سرَّها وعلانيتها .
14144- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة, نحوه .
* * *
وقال آخرون: " ما ظهر "، نكاح الأمهات وحلائل الآباء =" وما بطن "، الزنى .
* ذكر من قال ذلك:
14145- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبيه, عن خصيف, عن مجاهد: (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن)، قال: " ما ظهر "، جمعٌ بين الأختين, وتزويج الرجل امرأة أبيه من بعده =" وما بطن "، الزنى . (24)
* * *
وقال آخرون في ذلك بما:-
14146- حدثني إسحاق بن زياد العطار النصري قال، حدثنا محمد بن إسحاق البلخي قال، حدثنا تميم بن شاكر الباهلي, عن عيسى بن أبي حفصة قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن)، قال: " ما ظهر "، الخمر =" وما بطن "، الزنى . (25)
* * *
القول في تأويل قوله : وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق)، يعني بالنفس التي حرم الله قتلها، نفسَ مؤمن أو مُعاهد = وقوله: (إلا بالحق)، يعني بما أباح قتلها به: من أن تقتل نفسًا فتقتل قَوَدًا بها, أو تزني وهي محصنة فترجم, أو ترتدَّ عن دينها الحقِّ فتقتل. فذلك " الحق " الذي أباح الله جل ثناؤه قتل النفس التي حرم على المؤمنين قتلها به =(ذلكم)، يعني هذه الأمور التي عهد إلينا فيها ربُّنا أن لا نأتيه وأن لا ندعه, هي الأمور التي وصَّانا والكافرين بها أن نعمل جميعًا به =(لعلكم تعقلون)، يقول: وصاكم بذلك لتعقلوا ما وصاكم به ربكم . (26)
------------------------
الهوامش :
(12) انظر تفسير (( تعالوا )) فيما سلف 11 : 137 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(13) انظر تفسير (( تلا )) فيما سلف 10 : 201 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(14) في المطبوعة : (( كخرصكم على الله )) ، وأثبت ما في المخطوطة .
(15) انظر تفسير (( الإحسان )) فيما سلف 2 : 292 / 8 : 334 ، 514 / 9 : 283 / 10 : 512 ، 576 .
(16) انظر ما سلف 2 : 290 - 292 / 8 : 334 .
(17) قوله : (( ولا تكونن من المشركين )) ، ساقط في المطبوعة والمخطوطة ، واستظهرت زيادته من معاني القرآن للفراء 1 : 364 ، وهي زيادة يفسد الكلام بإسقاطها .
(18) لم أعرف قائله .
(19) معاني القرآن للفراء 1 : 364 ، وليس فيه البيت الثالث ، وفيه مكانه :
* وَلا تَمْشِ بِفَضَـــاءٍ بَعَـــدَا *
(20) انظر تفسير (( الفواحش )) فيما سلف 8 : 203 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(21) انظر تفسير (( ظهر )) ، و (( بطن )) فيما سلف ص 72 - 75 ، ثم انظر الأثر رقم : 9075 .
(22) (( زواني الحوانيت )) ، كانت البغايا تتخذ حانوتًا عليه راية ، إعلامًا بأنها بغى . وانظر الأثر السالف رقم : 13801 .
(23) الأثر : 14141 - مضى هذا الخبر برقم : 13802 .
(24) الأثر : 14145 - مضى برقم : 13803 .
(25) الأثر : 14146 - ((إسحاق بن زياد العطار النصري )) ، لم أجد له ترجمة ، وفي المطبوعة (( البصري )) ، وأثبت ما في المخطوطة .
و (( محمد بن إسحاق البلخي الجوهري )) ، لم أجد له غير ترجمة في ابن أبي حاتم 3 / 2 / 195 ، قال : (( روى عن مطرف بن مازن ، وأبي أمية بن يعلي ، وقيراط الحجام ، ومحمد بن حرب الأبرش ، وعيسى بن يونس . كتب عنه أبي بالري )) .
وأما (( تميم بن شاكر الباهلي )) و (( عيسى بن أبي حفصة )) ، فلم أعثر لهما على ترجمة ولا ذكر .
(26) انظر تفسير (( وصى )) فيما سلف ص : 189 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .