تفسير الطبري

تفسير الآية رقم 199 من سورة الأعراف

القول في تأويل قوله : خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:
فقال بعضهم: تأويله: (خذ العفو) من أخلاق الناس, وهو الفضل وما لا يجهدهم. (7)
* ذكر من قال ذلك:
15535 - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم, عن مجاهد, في قوله: (خذ العفو) قال: من أخلاق الناس وأعمالهم بغير تحسس. (8)
15536 - حدثنا يعقوب وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية, عن ليث, عن مجاهد في قوله: (خذ العفو) قال: عفو أخلاق الناس, وعفوَ أمورهم.
15537 - حدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: حدثني ابن أبي الزناد, عن هشام بن عروة, عن أبيه في قوله: (خذ العفو)، .. الآية. قال عروة: أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس. (9)
15538 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن ابن الزبير قال: ما أنـزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس: (خذ العفو وأمر بالعرف)، الآية. (10)
15539 - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا محمد بن بكر, عن ابن جريج قال: بلغني عن مجاهد: (خذ العفو)، من أخلاق الناس وأعمالهم بغير تحسس. (11)
15540 - .... قال: حدثنا أبو معاوية, عن هشام بن عروة, عن وهب بن كيسان, عن ابن الزبير: (خذ العفو) قال: من أخلاق الناس, والله لآخذنَّه منهم ما صحبتم. (12)
15541 - .... قال: حدثنا عبدة بن سليمان, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن ابن الزبير (13) قال: إنما أنـزل الله: (خذ العفو)، من أخلاق الناس.
15542 - حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: (خذ العفو) قال: من أخلاق الناس وأعمالهم، من غير تحسس =أو تجسس, شك أبو عاصم. (14)
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: خذ العفو من أموال الناس, وهو الفضل. قالوا: وأمر بذلك قبل نـزول الزكاة, فلما نـزلت الزكاة نُسِخ.
* ذكر من قال ذلك:
15543 - حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس, قوله (خذ العفو)، يعني: خذ ما عفا لك من أموالهم, وما أتوك به من شيء فخذه. فكان هذا قبل أن تنـزل براءة بفرائض الصدقات وتفصيلها وما انتهت الصدقات إليه.
15544 - حدثني محمد بن الحسين. قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: (خذ العفو)، أما " العفو ": فالفضل من المال, نسختها الزكاة.
15545 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك, يقول في قوله: (خذ العفو)، يقول: خذ ما عفا من أموالهم. وهذا قبل أن تنـزل الصدقة المفروضة.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك أمرٌ من الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم بالعفو عن المشركين، وترك الغلظة عليهم قبل أن يفرض قتالهم عليه.
* ذكر من قال ذلك:
15546 - حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, في قوله: (خذ العفو) قال: أمره فأعرض عنهم عشر سنين بمكة. قال: ثم أمره بالغلظة عليهم، وأن يقعد لهم كل مَرْصَد ، وأن يحصرهم, ثم قال: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ ، [سورة التوبة: 5 ] الآية، كلها. وقرأ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ، [سورة التوبة: 73 / : ] قال وأمر المؤمنين بالغلظة عليهم, فقال يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ، [سورة التوبة: 123] بعدما كان أمرهم بالعفو. وقرأ قول الله: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ، [سورة الجاثية: 14] ثم لم يقبل منهم بعد ذلك إلا الإسلام أو القتل, فنسخت هذه الآية العفو. (15)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معناه: خذ العفو من أخلاق الناس, واترك الغلظة عليهم = وقال: أُمر بذلك نبيّ الله صلى الله عليه وسلم في المشركين.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب, لأن الله جل ثناؤه أتبع ذلك تعليمَه نبيَّه صلى الله عليه وسلم محاجَّته المشركين في الكلام, وذلك قوله: قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ ، وعقَّبه بقوله: وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ * وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا ، فما بين ذلك بأن يكون من تأديبه نبيَّه صلى الله عليه وسلم في عشرتهم به، (16) أشبهُ وأولى من الاعتراض بأمره بأخذ الصدقة من المسلمين.
* * *
فإن قال قائل: أفمنسوخ ذلك؟
قيل: لا دلالة عندنا على أنه منسوخ, إذ كان جائزًا أن يكون = وإن كان الله أنـزله على نبيه صلى الله عليه وسلم في تعريفه عشرةَ من لم يُؤْمَر بقتاله من المشركين = مرادًا به تأديبُ نبيّ الله والمسلمين جميعًا في عشرة الناس، وأمرهم بأخذ عفو أخلاقهم, فيكون وإن كان من أجلهم نـزل تعليمًا من الله خلقه صفةَ عشرة بعضهم بعضًا, [إذا] لم يجب استعمال الغلظة والشدة في بعضهم, (17) فإذا وجب استعمال ذلك فيهم، استعمل الواجب, فيكون قوله: (خذ العفو)، أمرًا بأخذه ما لم يجب غيرُ العفو, فإذا وجب غيره أخذ الواجب وغير الواجب إذا أمكن ذلك. فلا يحكم على الآية بأنها منسوخة، لما قد بينا ذلك في نظائره في غير موضع من كتبنا. (18)
* * *
وأما قوله: (وأمر بالعرف)، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم بما: -
15547 - حدثني الحسن بن الزبرقان النخعي قال: حدثني حسين الجعفي, عن سفيان بن عيينة, عن رجل قد سماه قال: لما نـزلت هذه الآية: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جبريل، ما هذا؟ قال: ما أدري حتى أسأل العالِم! قال: ثم قال جبريل: يا محمد، إن الله يأمرك أن تَصِل مَن قطعك, وتعطي من حرمك, وتعفو عمن ظلمك. (19)
15548 - حدثني يونس قال: أخبرنا سفيان, عن أمَيّ قال: لما أنـزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا جبريل؟ قال: إن الله يأمرك أن تعفوَ عمن ظلمك, وتعطيَ من حرمك, وتصل من قطعك. (20)
* * *
وقال آخرون بما:-
15549 - حدثني محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن هشام بن عروة, عن أبيه: {وأمر بالعرف}، يقول: بالمعروف.
15550 - حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: {وأمر بالعرف} قال: أما العرف: فالمعروف.
15551 - حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {وأمر بالعرف}، أي: بالمعروف.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس بالعرف =وهو المعروف في كلام العرب, مصدر في معنى: " المعروف ".
* * *
يقال: " أوليته عُرْفًا، وعارفًا، وعارفةً" (21) كل ذلك بمعنى: " المعروف ". (22)
* * *
فإذا كان معنى العرف ذلك, فمن " المعروف " صلة رحم من قطع, وإعطاء من حرم, والعفو عمن ظلم. وكل ما أمر الله به من الأعمال أو ندب إليه، فهو من العرف. ولم يخصص الله من ذلك معنى دون معنى; فالحق فيه أن يقال: قد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباده بالمعروف كله، لا ببعض معانيه دون بعض.
* * *
وأما قوله: (وأعرض عن الجاهلين)، فإنه أمر من الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يعرض عمن جهل. (23) وذلك وإن كان أمرًا من الله نبيَّه, فإنه تأديب منه عز ذكره لخلقه باحتمال من ظلمهم أو اعتدى عليهم, (24) لا بالإعراض عمن جهل الواجبَ عليه من حق الله، ولا بالصفح عمن كفر بالله وجهل وحدانيته, وهو للمسلمين حَرْبٌ.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
15552 - حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) قال: أخلاقٌ أمر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم, ودلَّه عليها.
--------------------
الهوامش :
(7) ( 1 ) انظر تفسير (( العفو )) فيما سلف 4 : 337 - 343 .
(8) ( 2 ) في المخطوطة هنا ، وفي الذي يليه رقم : 15539 (( تحسيس )) بالياء ، ولا أدرى ما هو . و (( تحسس الشيء )) تبحثه وتطلبه ، كأنه يعني الاستقصاء في الطلب ، يؤيد هذا ما سيأتي برقم : 15542 .
(9) ( 1 ) الأثر : 15537 - رواه البخاري في صحيحه ( الفتح 8 : 229 ) من طريق عبد الله بن براد ، عن أبي أسامة ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عبد الله بن الزبير . وانظر ما قاله فيه الحافظ ابن حجر .
(10) ( 2 ) الأثر : 15538 - (( هشام بن عروة بن الزبير )) ، ثقة ، معروف ، مضي مرارًا .وأبوه (( عروة بن الزبير )) ، يروى عن أخيه (( عبد الله بن الزبير )) . وكان في المطبوعة هنا : (( عن أبي الزبير )) ، وهو خطأ، صوابه ما كان في المخطوطة .
وهذا خبر صحيح ، رواه البخاري في صحيحه ( الفتح 8 : 299 ) وسيأتي برقم 15541 ، بإسناد آخر
(11) انظر التعليق السالف ، ص : 326 رقم : 2 .
(12) الأثر : 15540 - (( ابن الزبير )) ، وهو (( عبد الله بن الزبير )) ، وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا (( أبي الزبير )) ، وهو خطأ صححناه آنفاً .
(13) في المطبوعة هنا (( عن أبي الزبير )) ، وهو خطأ كما أسلفت .
(14) ((التجسس )) ، مثل (( التحسس )) ، مع خلاف يسير ، وانظر ما سلف ص : 326 ، تعليق رقم : 2 .
(15) مضي خبر آخر برقم : 4175 ، فيه ذكر هذه الآية ، وتفسيرها بذلك عن ابن عباس .
(16) قوله : (( به )) في آخر الجملة ، متعلق بقوله في أولها (( من تأديبه )) ، كأنه قال (( من تأديبه به )) ، أي بهذا الذي بين الآيتين .
(17) في المطبوعة (( لم يجب )) ، بغير (( إذا )) ، فوضعتها بين قوسين ، فالسياق يتطلبها ، وإلا اضطرب الكلام .
(18) انظر مقالة أبي جعفر في (( النسخ )) فيما سلف من فهارس الأجزاء الماضية .
(19) الأثر : 15547 - (( الحسن بن الزبرقان النخعي )) ، شيخ الطبري ، مضى برقم : 2995 . والرجل الذي لم يسم في هذا الخبر هو (( أمي بن ربيعة )) ، الذي يأتي في الخبر التالي .
(20) الأثر : 15548 - (( سفيان )) هو ابن عيينة . و (( أمي )) هو : (( أمي بن ربيعة المرادى الصيرفي )) ، سمع الشعبي، وعطاء ، وطاوس . روى عنه سفيان بن عيينة ، وشريك . ثقة . مترجم في التهذيب ، وابن سعد 6 : 254 ، والكبير 1/2/ 67 ، وابن أبي حاتم 1/1/ 347 . وكان في المخطوطة فوق (( أمى )) حرف (ط) دلالة على الخطأ ، وبالهامش( كذا ) ، ولكن الناسخ جهل الاسم فأشكل علية . فجاء في المطبوعة فجعله (( أبى )) ، وكذلك في تفسير ابن كثير 3: 618 ، والصواب ما اثبت . وهذا الخبر ، رواه (( أمى بن ربيعة )) ، عن الشعبي، كما يظهر ذلك من روايات الخبر في ابن كثير ، والدر المنثور 3: 153 .
(21) قولة : (( عارفا )) ، لم أجدها في المعاجم ، وهي صحيحة فيما أرجح .
(22) انظر تفسير (( المعروف )) فيما سلف ص : 165 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(23) انظر تفسير (( الإعراض )) فيما سلف 12 : 32 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك . = وتفسير (( الجهل )) فيما سلف 2 : 183 / 8 : 89 - 92 / 11 : 339 ، 340 ، 393 ، 394 .
(24) يعني أن "الجهل" هنا بمعنى السفه والتمرد والعدوان ، لا بمعنى "الجهل" الذي هو ضد العلم والمعرفة.