تفسير الطبري

تفسير الآية رقم 31 من سورة الأعراف

القول في تأويل قوله : يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لهؤلاء الذين يتعرَّون عند طوافهم ببيته الحرام، ويبدون عوراتهم هنالك من مشركي العرب, والمحرِّمين منهم أكل ما لم يحرِّمه الله عليهم من حلال رزقه، تبرُّرًا عند نفسه لربه: (يا بني آدم خذوا زينتكم)، من الكساء واللباس =(عند كل مسجد وكلوا)، من طيبات ما رزقتكم, وحللته لكم =(واشربوا)، من حلال الأشربة, ولا تحرِّموا إلا ما حَرَّمْتُ عليكم في كتابي أو على لسان رسولي محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
14503- حدثنا يحيى بن حبيب بن عربي قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا شعبة, عن سلمة, عن مسلم البطين, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: أن النساء كنّ يطفن بالبيت عراة = وقال في موضع آخر: بغير ثياب = إلا أن تجعل المرأة على فرجها خِرقة، فيما وُصِف إن شاء الله, وتقول:
الْيَــوْمَ يَبْــدُو بَعْضُــهُ أَوْ كُلُّــهُ
فَمَــا بَــدَا مِنْــهُ فَــلا أُحِلُّــهُ
قال: فنـزلت هذه الآية: (خذوا زينتكم عند كل مسجد). (1)
14504- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن سلمة بن كهيل, عن مسلم البطين, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: كانوا يطوفون عراة, الرجال بالنهار, والنساء بالليل, وكانت المرأة تقول:
الْيَــوْمَ يَبْــدُو بَعْضُــهُ أَوْ كُلُّــهُ
فَمَــا بَــدَا مِنْــهُ فَــلا أُحِلُّــهُ
فقال الله: (خذوا زينتكم). (2)
14505- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن عمرو, عن ابن عباس: (خذوا زينتكم عند كل مسجد)، قال: الثياب.
14506- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا غندر ووهب بن جرير, عن شعبة, عن سلمة بن كهيل قال: سمعت مسلمًا البطين يحدث، عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: كانت المرأة تطوف بالبيت عريانة = قال غندر: وهي عريانة = قال، وهب: كانت المرأة تطوف بالبيت وقد أخرجت صدرَها وما هنالك = قال غندر: وتقول: " مَنْ يعيرني تِطْوافًا‍"، (3) تجعله على فرْجها وتقول:
الْيَــوْمَ يَبْــدُو بَعْضُــهُ أَوْ كُلُّــهُ
فَمَــا بَــدَا مِنْــهُ فَــلا أُحِلُّــهُ
فأنـزل الله (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد). (4)
14507- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد)، قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة, فأمرهم الله أن يلبسوا ثيابهم ولا يتعرَّوا.
14508- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: (خذوا زينتكم عند كل مسجد) " الآية " قال: كان رجال يطوفون بالبيت عراة, فأمرهم الله بالزينة = و " الزينة "، اللباس, وهو ما يواري السوءة, وما سوى ذلك من جيِّد البزِّ والمتاع = فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد.
14509- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي وابن فضيل, عن عبد الملك, عن عطاء: (خذوا زينتكم)، قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة, فأمروا أن يلبسوا ثيابهم.
14510- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم, عن عبد الملك, عن عطاء, بنحوه.
14511- حدثني عمرو قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا عبد الملك, عن عطاء في قوله: (خذوا زينتكم عند كل مسجد)، البسوا ثيابكم.
14512- حدثنا يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله: (خذوا زينتكم عند كل مسجد)، قال: كان ناس يطوفون بالبيت عراة، فنهوا عن ذلك.
14513- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن إبراهيم: (خذوا زينتكم عند كل مسجد)، قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة, فأمروا أن يلبسوا الثياب.
14514- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن عثمان بن الأسود, عن مجاهد: (خذوا زينتكم عند كل مسجد)، قال: ما وارى العورة ولو عبَاءة.
14515- حدثنا عمرو قال:حدثنا يحيى بن سعيد, وأبو عاصم, وعبد الله بن داود, عن عثمان بن الأسود, عن مجاهد في قوله: (خذوا زينتكم عند كل مسجد)، قال: ما يواري عورتك، ولو عباءة.
14516- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: (خذوا زينتكم عند كل مسجد)، في قريش, لتركهم الثياب في الطواف.
14517- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, بنحوه.
14518- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا سفيان, عن سالم, عن سعيد بن جبير: (خذوا زينتكم عند كل مسجد)، قال: الثياب.
14519- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن حباب, عن إبراهيم, عن نافع, عن ابن طاوس, عن أبيه: (خذوا زينتكم عند كل مسجد)، قال: الشَّمْلة من الزينة. (5)
14520- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن عمرو, عن طاوس: (خذوا زينتكم عند كل مسجد)، قال: الثياب.
14521- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سويد وأبو أسامة, عن حماد بن زيد, عن أيوب, عن سعيد بن جبير قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة, فطافت امرأة بالبيت وهي عريانة فقالت:
الْيَــوْمَ يَبْــدُو بَعْضُــهُ أَوْ كُلُّــهُ
فَمَــا بَــدَا مِنْــهُ فَــلا أُحِلُّــهُ
14522- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: (خذوا زينتكم عند كل مسجد)، قال: كان حي من أهل اليمن، كان أحدهم إذا قدم حاجًّا أو معتمرًا يقول: " لا ينبغي أن أطوف في ثوب قد دَنِسْتُ فيه ", (6) فيقول: من يعيرني مئزرًا؟ فإن قدر على ذلك, وإلا طاف عريانًا, فأنـزل الله فيه ما تسمعون: (خذوا زينتكم عند كل مسجد).
14523- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: قال الله: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد) يقول: ما يواري العورة عند كل مسجد.
14524- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الزهري: أن العرب كانت تطوف بالبيت عراة, إلا الحُمْس، قريش وأحلافهم. فمن جاء من غيرهم وضع ثيابه وطاف في ثياب أحمس, فإنه لا يحل له أن يلبس ثيابه. فإن لم يجد من يعيره من الحمس، فإنه يلقي ثيابه ويطوف عريانًا. وإن طاف في ثياب نفسه، ألقاها إذا قضى طوافه، يحرِّمها، فيجعلها حرامًا عليه. فلذلك قال الله: (خذوا زينتكم عند كل مسجد). (7)
14525- وبه عن معمر قال، قال ابن طاوس, عن أبيه: الشَّملة، من الزينة. (8)
14526- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (خذوا زينتكم عند كل مسجد)، الآية, كان ناسٌ من أهل اليمن والأعراب إذا حجوا البيت يطوفون به عُراة ليلا فأمرهم الله أن يلبسوا ثيابهم، ولا يتعرّوا في المسجد.
14527- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (خذوا زينتكم)، قال: زينتهم، ثيابهم التي كانوا يطرحونها عند البيت ويتعرّون.
14528- وحدثني به مرة أخرى بإسناده, عن ابن زيد في قوله: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ، قال: كانوا إذا جاءوا البيت فطافوا به، حرمت عليهم ثيابهم التي طافوا فيها. فإن وجدوا مَنْ يُعيرهم ثيابًا, وإلا طافوا بالبيت عراة. فقال: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ ، قال: ثياب الله التي أخرج لعباده، الآية.
* * *
وكالذي قلنا أيضًا قالوا في تأويل قوله: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ).
* ذكر من قال ذلك:
14529- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه, عن ابن عباس قال: أحل الله الأكل والشرب، ما لم يكن سَرَفًا أو مَخِيلة. (9)
14530- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس قوله: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين)، في الطعام والشراب.
14531- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: كان الذين يطوفون بالبيت عراة يحرِّمون عليهم الوَدَك ما أقاموا بالموسم, (10) فقال الله لهم: (كلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين)، يقول: لا تسرفوا في التحريم.
14532- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، سمعت مجاهدًا يقول في قوله: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا)، قال: أمرهم أن يأكلوا ويشربوا مما رزقهم الله.
14533- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ولا تسرفوا)، لا تأكلوا حرامًا، ذلك الإسراف.
* * *
وقوله (إنه لا يحب المسرفين)، يقول: إن الله لا يحب المتعدِّين حدَّه في حلال أو حرام, الغالين فيما أحلّ الله أو حرم، بإحلال الحرام وبتحريم الحلال, (11) ولكنه يحبّ أن يحلَّل ما أحل ويحرَّم ما حرم, وذلك العدل الذي أمر به.
------------------------
الهوامش :
(1) الأثر : 14503 - حديث شعبة ، عن سلمة بن كهيل ، رواه أبو جعفر من ثلاث طرق ، سأخرجها في هذا الموضع .
(( يحيى بن حبيب بن عربي الشيباني )) ، أبو زكرياء ، ثقة ، مضى برقم : 7818 ، مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 137 .
(( خالد بن الحارث بن عبيد الهجيمي )) ، ثقة ثبت إمام . مضى برقم : 7507 ، 7818 ، 9878 .
و (( سلمة )) ، هو (( سلمة بن كهيل )) ، مضى مرارًا .
و (( مسلم البطين )) هو (( مسلم بن عمران )) ، ثقة روى له الجماعة .
وهذا الخبر ، رواه مسلم في صحيحه 18 : 162 ، من طريق غندر ، عن شعبة ( وهو الآتي رقم : 14506 ) .
ورواه الحاكم في المستدرك 2 : 319 ، 320 من طريق أبي داود الطيالسي ، عن شعبة ، بنحوه ، ولكن قال : (( نزلت هذه الآية : قل من حرم زينة الله )) ، ثم قال الحاكم : (( حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه )) ، ووافقه الذهبي .
(2) الأثر : 14504 - مكرر الأثر السالف ، وهناك تخريجه .
(3) (( تطواف )) ( بكسر التاء ) : ثوب كانوا يتخذونه للطواف ، قال النووي : (( وكان أهل الجاهلية يطوفون عراة ، ويرمون ثيابهم ويتركونها ملقاة على الأرض ، ولا يأخذونها أبدًا ، ويتركونها تداس بالأرجل حتى تبلى ، ويسمى : اللقاء - حتى جاء الإسلام ، فأمر الله بستر العورة فقال : خذوا زينتكم عند كل مسجد ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا يطوف بالبيت عريان )) وروى (( تطواف )) ( بفتح التاء ) ، وفسروه بأنه (( ذا تطواف )) ، على حذف المضاف .
(4) الأثر : 14506 - مكرر الأثرين السالفين : 14503 ، 14504 ، سلف تخريجه في أولهما . وهذا نص حديث مسلم .
(5) (( الشملة )) ( بفتح فسكون ) : كساء دون قطيفة ، سمي بذلك لأنه يشمل البدن . ومنه ما نهى رسول الله عنه في الصلاة ، وهو (( اشتمال الصماء )) ، وهو أن يشتمل بالثوب حتى يجلل جسده كله ، ولا يرفع منه جانبًا فيكون فيه فرجة تخرج منها يده .
(6) (( الدنس )) في الثوب ، لطخ الوسخ ونحوه ، حتى في الأخلاق . وعنى بقوله : (( دنست فيه )) ، أي أتيت فيه ما يشين ويعيب من المعاصي .
(7) انظر تفسير (( الحمس )) فيما سلف ص : 378 ، تعليق : 1 .
(8) الأثر : 14525 - انظر الأثر رقم : 14519 .
(9) (( السرف )) ( بفتحتين ) : وهو الإسراف ، ومجاوزة القصد . و (( المخيلة )) ( بفتح الميم وكسر الخاء ) : الاختيال والكبر ، وحديث ابن عباس المعروف : (( كل ماشئت ، والبس ما شئت ، ما أخطأتك خلتان : سرف ومخيلة )) ، رواه البخاري .
(10) (( الودك )) : دسم اللحم ودهنه الذي يستخرج منه . و (( الموسم )) مجتمع الناس في أيام الحج .
(11) انظر تفسير (( الإسراف )) فيما سلف : ص : 176 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .