تفسير الطبري

تفسير الآية رقم 8 من سورة الأعراف

القول في تأويل قوله : وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)
قال أبو جعفر: " الوزن " مصدر من قول القائل: " وزنت كذا وكذا أزِنه وَزْنًا وزِنَةً", مثل: " وَعدته أعده وعدًا وعدة ".
وهو مرفوع بـ" الحق ", و " الحق " به. (29)
* * *
ومعنى الكلام: والوزن يوم نسأل الذين أرسل إليهم والمرسلين, الحق = ويعني بـ" الحق "، العدلَ.
* * *
وكان مجاهد يقول: " الوزن "، في هذا الموضع، القضاء.
14328- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: " والوزن يومئذ "، القضاء.
* * *
وكان يقول أيضًا: معنى " الحق "، هاهنا، العدل.
* ذكر الرواية بذلك:
14329- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن الأعمش, عن مجاهد: (والوزن يومئذ الحق)، قال: العدل.
* * *
وقال آخرون: معنى قوله: (والوزن يومئذ الحق)، وزن الأعمال.
* ذكر من قال ذلك:
14330- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي, قوله: (والوزن يومئذ الحق)، توزن الأعمال.
14331- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: (والوزن يومئذ الحق)، قال: قال عبيد بن عمير: يؤتى بالرجل العظيم الطويل الأكول الشَّروب, فلا يزن جناح بَعُوضة.
14332- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: (والوزن يومئذ الحق)، قال: قال عبيد بن عمير: يؤتى بالرجل الطويل العظيم فلا يزن جناح بعوضة.
14333- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا يوسف بن صهيب, عن موسى, عن بلال بن يحيى, عن حذيفة قال: صاحب الموازين يوم القيامة جبريل عليه السلام، قال: يا جبريل، زِن بينهم! فردَّ من بعضٍ على بعض. قال: وليس ثم ذهبٌ ولا فضة. قال: فإن كان للظالم حسنات، أخذ من حسناته فترد على المظلوم, (30) وإن لم يكن له حسنات حُمِل عليه من سيئات صاحبه ، فيرجع الرجل عليه مثل الجبال, فذلك قوله: (والوزن يومئذ الحق). (31)
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (فمن ثقلت موازينه).
فقال بعضهم: معناه: فمن كثرت حسناته.
* ذكر من قال ذلك:
14334- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن الأعمش, عن مجاهد: (فمن ثقلت موازينه)، قال: حسناته.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: فمن ثقلت موازينه التي توزن بها حسناته وسيئاته. قالوا: وذلك هو " الميزان " الذي يعرفه الناس, له لسان وكِفَّتان.
* ذكر من قال ذلك:
14335- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال لي عمرو بن دينار قوله: (والوزن يومئذ الحق)، قال: إنا نرى ميزانًا وكفتين, سمعت عبيد بن عمير يقول: يُجْعَل الرجل العظيم الطويل في الميزان, ثم لا يقوم بجناح ذباب.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، القول الذي ذكرناه عن عمرو بن دينار، من أن ذلك هو " الميزان " المعروف الذي يوزن به, وأن الله جل ثناؤه يزن أعمال خلقه الحسنات منها والسيئات, كما قال جل ثناؤه: (فمن ثقلت موازينه)، موازين عمله الصالح =(فأولئك هم المفلحون)، يقول: فأولئك هم الذين ظفروا بالنجاح، وأدركوا الفوز بالطلبات, والخلود والبقاء في الجنات, (32) لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: " ما وُضِع في الميزان شيء أثقل من حسن الخُلق ", (33) ونحو ذلك من الأخبار التي تحقق أن ذلك ميزانٌ يوزن به الأعمال، على ما وصفت.
* * *
فإن أنكر ذلك جاهل بتوجيه معنى خبر الله عن الميزان وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم عنه، وِجْهَته, وقال: أوَ بالله حاجة إلى وزن الأشياء، وهو العالم بمقدار كل شيء قبل خلقه إياه وبعده، وفي كل حال ؟ = أو قال: وكيف توزن الأعمال, والأعمال ليست بأجسام توصف بالثقل والخفة, وإنما توزن الأشياء ليعرف ثقلها من خفتها، وكثرتها من قلتها, وذلك لا يجوز إلا على الأشياء التي توصف بالثقل والخفة، والكثرة والقلة؟
قيل له في قوله: " وما وجه وزن الله الأعمالَ، وهو العالم بمقاديرها قبل كونها ": وزن ذلك، نظيرُ إثباته إياه في أمِّ الكتاب واستنساخه ذلك في الكتب، من غير حاجة به إليه، ومن غير خوف من نسيانه, وهو العالم بكل ذلك في كل حال ووقت قبل كونه وبعد وجوده, بل ليكون ذلك حجة على خلقه, كما قال جل ثناؤه في تنـزيله: ( كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ [سورة الجاثية: 28-29] الآية فكذلك وزنه تعالى أعمال خلقه بالميزان، حجة عليهم ولهم, إما بالتقصير في طاعته والتضييع، وإما بالتكميل والتتميم (34)
* * *
وأمّا وجه جواز ذلك, فإنه كما:
14336- حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا جعفر بن عون قال، حدثنا عبد الرحمن بن زياد الإفريقي, عن عبد الله بن يزيد, عن عبد الله بن عمرو، قال: يُؤْتى بالرجل يوم القيامة إلى الميزان, فيوضع في الكِفّة, فيخرج له تسعة وتسعون سِجِلا فيها خطاياه وذنوبه. قال: ثم يخرج له كتاب مثل الأنْمُلة, فيها شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم . قال: فتوضع في الكِفّة، فترجح بخطاياه وذنوبه. (35)
* * *
فكذلك وزن الله أعمال خلقه، بأن يوضع العبد وكتب حسناته في كفة من كفتي الميزان, وكتب سيئاته في الكفة الأخرى, ويحدث الله تبارك وتعالى ثقلا وخفة في الكفة التي الموزون بها أولى، احتجاجًا من الله بذلك على خلقه، كفعله بكثير منهم: من استنطاق أيديهم وأرجلهم, استشهادًا بذلك عليهم, وما أشبه ذلك من حججه.
ويُسأل مَن أنكر ذلك فيقال له: إن الله أخبرنا تعالى ذكره أنه يثقل موازين قوم في القيامة، ويخفف موازين آخرين, وتظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحقيق ذلك, فما الذي أوجب لك إنكار الميزان أن يكون هو الميزان الذي وصفنا صفته، الذي يتعارفه الناس؟ أحجة عقل تُبْعِد أن يُنال وجه صحته من جهة العقل؟ (36) وليس في وزن الله جل ثناؤه خلقَه وكتبَ أعمالهم لتعريفهم أثقل القسمين منها بالميزان، خروجٌ من حكمة, ولا دخول في جور في قضية, فما الذي أحال ذلك عندك من حجةِ عقلٍ أو خبر؟ (37) إذ كان لا سبيل إلى حقيقة القول بإفساد ما لا يدفعه العقل إلا من أحد الوجهين اللذين ذكرتُ، ولا سبيل إلى ذلك. وفي عدم البرهان على صحة دعواه من هذين الوجهين، وضوحُ فساد قوله، وصحة ما قاله أهل الحق في ذلك.
وليس هذا الموضع من مواضع الإكثار في هذا المعنى على من أنكر الميزان الذي وصفنا صفته, إذ كان قصدُنا في هذا الكتاب: البيانَ عن تأويل القرآن دون غيره. ولولا ذلك لقرنَّا إلى ما ذكرنا نظائره, وفي الذي ذكرنا من ذلك كفاية لمن وُفِّق لفهمه إن شاء الله.
----------------
الهوامش :
(29) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 373 .
(30) في المطبوعة أسقط من الكلام ما لا يستقيم إلا به ، فرددتها إلى أصلها من المخطوطة . كان في المطبوعة : (( يا جبريل زن بينهم ، فرد على المظلوم ... )) .
(31) الأثر : 14333 - (( الحارث )) ، هو (( الحارث بن أبي أسامة )) ، ثقة مضى مرارًا .
و (( عبد العزيز )) ، هو (( عبد العزيز بن أبان الأموي )) ، كذاب خبيث يضع الأحاديث ، مضى ذكره مرارًا ، رقم : 10295 ، 10315 ، 10360 ، 10553 .
(( يوسف بن صهيب الكندي )) ، ثقة . مترجم في التهذيب ، والكبير 4 /2 /380 ، وابن أبي حاتم 4 /2 /224 . و (( موسى )) كثير ، ولم أستطع أن أعينه .
و (( بلال بن يحي العبسي )) ، يروي عن حذيفة . ثقة ، مترجم في التهذيب ، والكبير 1 /2 /108 ، وابن أبي حاتم 1 /1 / 396 .
(32) انظر تفسير (( الفلاح )) فيما سلف ص : 130 تعليق : 2 والمراجع هناك .
(33) روى الترمذي في سننه في كتاب (( البر والصلة )) باب (( ما جاء في حسن الخلق )) ، عن أبي الدرداء ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق خسن ، فإن الله تعالى يبغض الفاحش البذيء )) ، ثم قال : (( وفي الباب عن عائشة ، وأبي هريرة ، وأنس ، وأسامة بن شريك . هذا حديث حسن صحيح )) . وقال السيوطي في الدر المنثور 3 : 71 (( وأخرجه أبو داود والترمذي وصححه وابن حبان واللالكائي ، عن أبي الدرداء )) .
(34) هذه إحدى حجج أبي جعفر ، التي تدل على لطف نظره ، ودقة حكمه ، وصفاء بيانه ، وقدرته على ضبط المعاني ضبطًا لا يختل . فجزاه الله عن كتابه ودينه أحسن الجزاء ، يوم توفى كل نفس ما كسبت .
(35) الأثر : 14336 - (( موسى بن عبد الرحمن المسروق )) شيخ أبي جعفر ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 8906 .
و (( جعفر بن عون بن عمرو بن حريث المخزومي )) ، ثقة ، مضى برقم : 9506 ، 14244 .
و (( عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي المعافري )) ، هو (( ابن أنعم )) ، ثقة . مضى برقم : 2195 ، 10180 ، 11337 .
و (( عبد الله بن يزيد المعافري )) أبو عبد الرحمن الحبلي المصري ، ثقة ، مضى برقم : 6657 ، 9483 ، 11917 .
وكان في المطبوعة : (( عن عبد الله بن عمر )) ، وهو خطأ ، صوابه من المخطوطة . وهذا خبر صحيح الإسناد .
ورواه أحمد في مسنده بغير هذا اللفظ مطولا ، في مسند عبد الله بن عمرو رقم : 6994 من طريق الليث بن سعد ، عن عامر بن يحيى ، عن أبي عبد الرحمن الحبلى = ثم رواه أيضًا رقم : 7066 من طريق ابن لهيعة ، عن عمرو بن يحيى ( عامر بن يحيى ) ، عن أبي عبد الرحمن الحبلى . ورواه من الطريق الأولي عند أحمد ابن ماجه في سننه ص : 1437 .
ورواه الحاكم في المستدرك 1 : 6 من طريق يونس بن محمد ، عن الليث بن سعد ، عن عامر بن يحيى ، عن أبي عبد الرحمن المعافري وقال : (( هذا حديث صحيح ، لم يخرج في الصحيحين ، وهو صحيح على شرط مسلم )) ، ووافقه الذهبي . ثم عاد فرواه في المستدرك أيضًا 1 : 529 من طريق يحيى بن عبد الله بن بكير ، عن الليث ، مثل إسناده وقال : (( هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه )) ووافقه الذهبي .
(36) في المطبوعة : أحجة عقل فقد يقال وجه صحته ... وهو كلام غير مستقيم . وفي المخطوطة . (( أحجة عقل بعدان ننال وجه صحته ... )) ، وكأن الصواب ما قرأته وأثبته .
(37) في المطبوعة : (( فما الذي أحال عندك من حجة أعقل أو خبر )) ، وهو فاسد ، وفي المخطوطة : (( ... من حجة أو عقل أو خبر )) ، بزيادة (( أو )) ، وبحذفها يستقيم الكلام .