تفسير الطبري
تفسير الآية رقم 3 من سورة الجن
وقوله: ( وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا ) اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: معناه: فآمنا به ولن نُشرك بربنا أحدًا، وآمنا بأنه تعالى أمر ربنا وسلطانه وقُدرته.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: ( وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا ) يقول: فعله وأمره وقُدرته.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنا أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا ) يقول: تعالى أمر ربنا.
حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المُثنَّى قالا ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن قتادة في هذه الآية: ( تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا ) قال: أمر ربنا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن السديّ: ( تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا ) قال: أمر ربنا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: ( تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا ) قال: تعالى أمرُه أن يتخذ -ولا يكون الذي قالوا-: صاحبة ولا ولدا، وقرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ قال: لا يكون ذلك منه.
وقال آخرون: عني بذلك جلال ربنا وذكره.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قال، قال عكرِمة، في قوله: ( جَدُّ رَبِّنَا ) قال: جلال ربنا.
حدثني محمد بن عمارة، قال: ثني خالد بن يزيد، قال: ثنا أبو إسرائيل، عن فضيل، عن مجاهد، في قوله: ( وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا ) قال: جلال ربنا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران عن سفيان، عن سليمان التَّيْمِيّ قال، قال عكرِمة: ( تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا ) جلال ربنا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا ) : أي تعالى جلاله وعظمته وأمره.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: ( تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا ) قال: تعالى أمر ربنا: تعالت عظمته.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: تعالى غنى ربنا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، قال، قال الحسن، في قوله: ( تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا ) قال: غنى ربنا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سليمان التيمي، عن الحسن ( تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا ) قال: غنى ربنا.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله: ( تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا ) قال: غِنَى ربنا.
حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا هشيم، عن سليمان التيمي، عن الحسن وعكرِمة، في قول الله: ( وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا ) قال أحدهما: غناه، وقال الآخر: عظمته.
وقال آخرون: عُنِي بذلك الجدّ الذي هو أب الأب، قالوا: ذلك كان من كلام جهلة الجنّ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو السائب، قال: ثني أبو جعفر محمد بن عبد الله بن أبي سارة، عن أبيه، عن أبي جعفر: ( تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا ) قال: كان كلامًا من جهلة الجنّ.
وقال آخرون: عُنِي بذلك: ذكره.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: ( تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا ) قال: ذكره.
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب قول من قال: عُنِي بذلك: تعالت عظمة ربنا وقُدرته وسلطانه.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لأن للجدِّ في كلام العرب معنيين أحدهما الجدّ الذي هو أبو الأب، أو أبو الأم، وذلك غير جائز أن يوصف به هؤلاء النفر الذين وصفهم الله بهذه الصفة، وذلك أنهم قد قالوا: ( فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ) ومن وصف الله بأن له ولدًا أو جدًّا أو هو أبو أب أو أبو أمّ، فلا شكّ أنه من المشركين.
والمعنى الآخر: الجَدّ الذي بمعنى الحظ؛ يقال: فلان ذو جدّ في هذا الأمر: إذا كان له حظّ فيه، وهو الذي يُقال له بالفارسية: البَخْت، وهذا المعنى قصده هؤلاء النفر من الجنّ بقيلهم: ( وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا ) إن شاء الله.
وإنما عَنَوا أن حظوته من المُلك والسلطان والقدرة والعظمة عالية، فلا يكون له صاحبة ولا ولد؛ لأن الصاحبة إنما تكون للضعيف العاجز الذي تضطرّه الشهوة الباعثة إلى اتخاذها، وأن الولد إنما يكون عن شهوة أزعجته إلى الوِقاع الذي يحدث منه الولد، فقال النفر من الجنّ: علا مُلك ربنا وسُلطانه وقدرته وعظمته أن يكون ضعيفًا ضعف خلقه الذين تضطرّهم الشهوة إلى اتخاذ صاحبة، أو وِقاع شيء يكون منه ولد.
وقد بين عن صحة ما قلنا في ذلك إخبار الله عنهم أنهم إنما نـزهوا الله عن اتخاذ الصاحبة والولد بقوله: ( وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا ) يقال منه: رجل جدّي وجديد ومجدود: أي ذو حظّ فيما هو فيه، ومنه قول حاتم الطائي:
أغْـزُوا بنـي ثُعْـلٍ فـالغَزْوُ جَـدُّكُمُ
عُـدُّوا الـرَّوَابي وَلا تَبْكُـوا لِمَنْ قُتِلا (1)
وقال آخر:
يُـــرَفعُ جَــدُّكَ إنِّــي اْمُــرؤٌ
سَــقَتْني إلَيْــكَ الأعـادِي سِـجالا (2)
وقوله: ( مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً ) يعني زوجة ( وَلا وَلَدًا ).
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: ( وَأَنَّهُ تَعَالَى ) فقرأه أبو جعفر القارئ وستة أحرف أُخر بالفتح، منها: ( أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ ) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ وكان نافع يكسرها إلا ثلاثة أحرف: أحدها: ( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ ) والثانية وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا والثالثة وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ . وأما قرّاء الكوفة غير عاصم، فإنهم يفتحون جميع ما في آخر سورة النجم وأوّل سورة الجنّ إلا قوله: ( فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا ) وقوله: قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وما بعده إلى آخر السورة، وأنهم يكسرون ذلك غير قوله: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ . وأما عاصم فإنه كان يكسر جميعها إلا قوله: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فإنه كان يفتحها، وأما أبو عمرو، فإنه كان يكسر جميعها إلا قوله: وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ فإنه كان يفتح هذه وما بعدها؛ فأما الذين فتحوا جميعها إلا في موضع القول، كقوله: ( فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا ) وقوله: قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي ونحو ذلك، فإنهم عطفوا أن في كلّ السورة على قوله: (فَآمَنَّا بِهِ) وآمنا بكلّ ذلك، ففتحوها بوقوع الإيمان عليها. وكان الفرّاء يقول: لا يمنعنك أن تجد الإيمان يقبح في بعض ذلك من الفتح، وأن الذي يقبح مع ظهور الإيمان قد يحسن فيه فعل مضارع للإيمان، فوجب فتح أنّ كما قالت العرب:
إذَا مــا الغَانِيــاتُ بَــرَزْنَ يَوْمًـا
وزَجَّجْــنَ الْحَوَاجِــبَ والعُيُونــا (3)
فنصب العيون لاتباعها الحواجب، وهي لا تزجج، وإنما تكحل، فأضمر لها الكحل، كذلك يضمر في الموضع الذي لا يحسن فيه آمنا صدّقنا وآمنا وشهدنا. قال: وبقول النصب قوله: وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ فينبغي لمن كسر أن يحذف " أن " من " لو " ؛ لأن " أن " إذا خُففت لم تكن حكاية. ألا ترى أنك تقول: أقول لو فعلت لفعلت، ولا تدخل " أن ". وأما الذين كسروها كلهم وهم في ذلك يقولون: وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا فكأنهم أضمروا يمينا مع " لو " وقطعوها عن النسق على أوّل الكلام، فقالوا: والله أن لو استقاموا؛ قال: والعرب تدخل " أن " في هذا الموضع مع اليمين وتحذفها، قال الشاعر:
فَأُقْسِــمُ لَـوْ شَـيْءٌ أتانـا رَسُـولُهُ
سِـوَاكَ وَلَكِـن لَـمْ نَجـدْ لَـكَ مَدْفَعا (4)
قالوا: وأنشدنا آخر:
أمَــا وَاللــه أنْ لَــوْ كُـنْتَ حـرًّا
ومَــا بــالْحُرّ أنْــتَ وَلا العَتِيـقِ (5)
وأدخل " أن " من كسرها كلها، ونصب وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فإنه خصّ، ذلك بالوحي، وجعل وَأَنْ لَوِ مضمرة فيها اليمين على ما وصفت. وأما نافع فإن ما فتح من ذلك فإنه ردّه على قوله: ( أُوحِيَ إِلَيَّ ) وما كسره فإنه جعله من قول الجنّ، وأحبّ ذلك إلي أن أقرأ به الفتح فيما كان وحيا، والكسر فيما كان من قول الجنّ؛ لأن ذلك أفصحها في العربية، وأبينها في المعنى، وأن كان للقراءات الأخر وجوه غير مدفوعة صحتها.
------------------------
الهوامش:
(1) البيت لحاتم الطائي (شعراء النصرانية 128) وفيه : "حظكم" في موضع "جدكم" وهما بمعنى. قال شارحه: والروابي: الأشراف، أو الأصل والشرف. وفي (اللسان: جدد) وفي التنزيل العزيز: ( وأنه تعالى جد ربنا ) قيل: جده عظمته، وقيل: غناه. وقال مجاهد: جد ربنا : جلال ربنا. وقال بعضهم: عظمة ربنا، وهما قريبان من السواء. ا هـ . وهذه التأويلات صالحة لتأويل قول حاتم، فالغزو: هو عز العرب وعظمتهم وسبب هيبتهم وجلالهم في أعين أعدائهم. وشجاعتهم في الحرب والنزال: هي حظهم الذي عرفوا به في الدنيا، يأبون الضيم، ويأنفون من استذلال الملوك والجبابرة لهم.
(2) هذا البيت لم ينسبه المؤلف. وهو أشبه بقول الحطيئة في لاميته المنصوبة، التي يخاطب بها سيدنا عمر بن الخطاب، معتذرا عن هجائه الزبرقان بن بدر التميمي، ومطلعها: "نأتك أمامة إلا سؤالا"، ولم أجده في ديوان الحطيئة المطبوع، ولا في جمهرة أشعار العرب (151 - 154). وقوله: يرفع جدك: يدعو له بأن يرفع الله حظه وذكره. والسجال: جمع سَجْل، وهو الدلو يعتذر إليه مما دسه عليه الوشاة
(3) سبق الاستشهاد بالبيت في الجزء (27 : 176) وشرحناه هناك شرحا مبسوطا، فارجع إليه
(4) البيت لامرئ القيس، وقد سبق الاستشهاد به في الجزئين (12 : 18 ، 13 : 152) فارجع إليه فيهما، فقد شرحناه مطولا.
(5) البيت من شواهد النحويين على "أن" المخففة من الثقيلة قيل: تعمل، وقيل: لا تعمل (الإنصاف في مسائل الخلاف لابن الأنباري طبعة القاهرة 1 : 126 ولم ينسبه). وقال الفراء في معاني القرآن، واستشهد بالبيت (الورقة 344): والعرب تدخل أن في هذا الموضع مع اليمين، وتحذفها. قال الشاعر: "فأقسم لو شيء.." البيت. وأنشدني آخر: "أما والله أن .." البيت. وقد نقل المؤلف كلام الفراء جميعه في فتح همزة أن وكسرها في آيات سورة الجن، فلا نطول الكلام بنقله، ونكتفي بهذه الإشارة