تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 23 من سورة يونس
وأتى بحرف ( إذا ) الفجائية في جواب ( لما ) للدلالة على تعجيلهم بالبغي في الأرض عقب النجاة .
والبغي : الاعتداء . وتقدم في قوله : { والإثم والبغي بغير الحق } في سورة [ الأعراف : 33 ]. والمراد به هنا الإشراك كما صُرح به في نظيرها { فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون } [ العنكبوت : 65 ]. وسمي الشرك بغياً لأنه اعتداء على حق الخالق وهو أعظم اعتداء ، كما يسمى ظلماً في آيات كثيرة منها قوله : { إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ]. ولا يحسن تفسير البغي هنا بالظلم والفساد في الأرض ، إذ ليس ذلك شأن جميعهم فإن منهم حلماء قومهم ، ولأنه لا يناسب قولَه بعد { إنما بغيكم على أنفسكم }. ولمعنى هذه الآية في القرآن نظائر ، كقوله : { وإذا مس الإنسان ضر دعا ربّه منيباً إليه ثم إذا خَوَّله نعمة منه نسي ما كَان يدعُو إليه من قبل وجَعل لله أنداداً ليضل عن سبيله }
[ الزمر : 8 ] الآية .
وزيادة { في الأرض } لمجرد تأكيد تمكنهم من النجاة . وهو كقوله تعالى : { فلما نجّاهم إلى البر فمنهم مقتصد } [ لقمان : 32 ] أي جعلوا مكان أثر النعمة بالنجاة مكاناً للبغي .
وكذلك قوله : { بغير الحق } هو قيد كاشف لمعنى البغي ، إذ البغي لا يكون بحق ، فهو كالتقييد في قوله تعالى : { ومن أضل ممن أتبع هواه بغير هدى من الله } [ القصص : 50 ].
استئناف خطاب للمشركين وهم الذين يبغون في الأرض بغير الحق .
وافتُتح الخطاب ب { يأيها الناس لاستصغاء أسماعهم . والمقصود من هذا تحذير المشركين ثم تهديدهم .
وصيغة قصر البغي على الكون مُضراً بهم كما هو مفاد حرف الاستعلاء تنبيه على حقيقة واقعية وموعظة لهم ليعلموا أن التحذير من الشرك والتهديد عليه لرعي صلاحهم لا لأنهم يضرونه كقوله : { ولا تضروه شيئاً } [ التوبة : 39 ]. فمعنى ( على ) الاستعلاء المجازي المكنَّى به عن الإضرار لأن المستعلي الغالب يضر بالمغلوب المستعلَى عليه ، ولذلك يكثر أن يقولوا : هذا الشيء عليك ، وفي ضده : هذا الشيء لك ، كقوله : { من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها } [ فصلت : 46 ]. ويقول المقر : لك عليّ كذا . وقال توبة بن الحمير :
وقد زعمت ليلى بأني فاجر ... لنفسي تُقاها أو عليها فجورها
وقال السموأل اليهودي :
أليَ الفضل أمْ عليّ إذا حُو ... سِبْتُ أني على الحساب مُقيت
وذلك أن ( على ) تدل على الإلزام والإيجاب ، واللام تدل على الاستحقاق . وفي الحديث : " القرآنُ حجة لك أو عليك " .
فالمراد بالأنفس أنفس الباغين باعتبار التوْزيع بين أفراد معاد ضمير الجماعة المخاطبين في قوله : { بغيكُم } وبين أفراد الأنفس ، كما في قولهم : «ركب القوم دوابَّهم» أي ، ركب كل واحد دابته . فالمعنى إنما بغي كل أحد على نفسه ، لأن الشرك لا يُضر إلا بنفس المشرك باختلال تفكيره وعمله ثم بوقوعه في العذاب .
و { متاع } مرفوع في قراءة الجمهور على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي هو متاعُ الحياة الدنيا . وقَرأه حفص عن عاصم بالنصب على الحال من ( بغيكم ). ويجوز أن يكون انتصابه على الظرفية للبغي ، لأن البغي مصدر مشتق فهو كالفعل فناب المصدر عن الظرف بإضافته إلى ما فيه معنى المدة . وتوقيت البغي بهذه المدة باعتبار أنه ذكر في معرض الغضب عليهم ، فالمعنى أنه أمهلكم إمهالاً طويلاً فهلاّ تتذكرون؟ فلا تحسبون الإمهال رضى بفعلكم ولا عجزاً وسيُؤاخدكم به في الآخرة . وفي كلتا القراءتين وجوهٌ غير ما ذكرنا .
والمتاع : ما ينتفع به انتفاعاً غير دائم . وقد تقدم عند قوله تعالى : { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين } في سورة [ الأعراف : 24 ]. والمعنى على كلتا القراءتين واحد ، أي أمهلناكم على إشراككم مدة الحياة لا غير ثم نؤاخذكم على بغيكم عند مرجعكم إلينا .
وجملة : ثم إلينا مرجعكم } عطفت ب ( ثم ) لإفادة التراخي الرتبي لأن مضمون هذه الجملة أصرح تهديداً من مضمون جملة { إنما بغيكم على أنفسكم }.
وتقديم المجرور في قوله : { إلينا مرجعكم } لإفادة الاختصاص ، أي ترجعون إلينا لا إلى غيرنا تنزيلاً للمخاطبين منزلة من يظن أنه يرجع إلى غير الله لأن حالهم في التكذيب بآياته والإعراض عن عبادته إلى عبادة الأصنام كحال من يظن أنه يحشر إلى الأصنام وإن كان المشركون ينكرون البعث من أصله .
وتفريع { فننبئكم } على جملة : { إلينا مرجعكم } تفريع وعيد على تهديد . واستعمل الإنباء كناية عن الجزاء لأن الإنباء يستلزم العلم بأعمالهم السيئة ، والقادر إذا علم بسوء صنيع عبده لا يمنعه من عقابه مانع . وفي ذكر { كنتم } والفعل المضارع دلالة على تكرر عملهم وتمكنه منهم . والوعيد الذي جاءت به هذه الآية وإن كان في شأن أعظم البغي فكان لكل آت من البغي بنصيب حظاً من هذا الوعيد .