تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 49 من سورة هود
استئناف أريد منه الامتنان على النبي صلى الله عليه وسلم والموعظة والتسلية .
فالامتنان من قوله : { ما كنت تعلمها }.
والموعظة من قوله : { فاصبر } إلخ .
والتّسلية من قوله : { إن العاقبة للمتقين }.
والإشارة ب { تلك } إلى ما تقدم من خبر نوح عليه السّلام ، وتأنيث اسم الإشارة بتأويل أن المشار إليه القصة .
والأنباء : جمع نَبأ ، وهو الخبر . وأنباء الغيب الأخبار المغيبة عن الناس أو عن فريق منهم . فهذه الأنباء مغيبة بالنسبة إلى العرب كلهم لعدم علمهم بأكثر من مجملاتها ، وهي أنه قد كان في الزمن الغابر نبيء يقال له : نوح عليه السلام أصاب قومَه طوفان ، وما عدا ذلك فهو غيب كما أشار إليه قوله : { ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا } ، فإنهم لم ينكروا ذلك ولم يدّعوا علمه . على أن فيها ما هو غيب بالنسبة إلى جميع الأمم مثل قصة ابن نوح الرابع وعصيانه أبَاه وإصابته بالغرق ، ومثل كلام الرّب مع نوح عليه السّلام عند هبوطه من السفينة ، ومثل سخرية قومه به وهو يصنع الفلك ، وما دار بين نوح عليه السّلام وقومه من المحاورة ، فإن ذلك كله مما لم يذكر في كتب أهل الكتاب .
وجملة { من أنبَاء الغيب ونوحيها وما كنتَ تعلمها } أخبار عن اسم الإشارة ، أو بعضها خبر وبعضها حال . وضمير { أنت } تصريح بالضمير المستتر في قوله : { تَعلمها } لتصحيح العطف عليه .
وعطف { ولا قومك } من الترقي ، لأن في قومه من خالط أهل الكتاب ومن كان يقرأ ويكتب ولا يعلم أحد منهم كثيراً مما أوحي إليه من هذه القصة .
والإشارة بقوله : { مِن قبل هذا } إما إلى القرآن ، وإما إلى الوقت باعتبار ما في هذه القصة من الزيادة على ما ذكر في أمثالها مما تقدم نزوله عليها ، وإما إلى { تلك } بتأويل النبأ ، فيكون التذكير بعد التأنيث شبيهاً بالالتفات .
ووجه تفريع أمر الرسول بالصبر على هذه القصة أن فيها قياس حاله مع قومه على حال نوح عليه السّلام مع قومه ، فكما صبر نوح عليه السّلام فكانت العاقبة له كذلك تكون العاقبة لك على قومك . وخبر نوح عليه السّلام مستفاد مما حكي من مقاومة قومه ومن ثباته على دعوتهم ، لأن ذلك الثبات مع تلك المقاومة من مسمى الصبر .
وجملة { إن العاقبة للمتقين } علة للصبر المأمور به ، أي اصبر لأن داعي الصبر قائم وهو أن العاقبة الحسنة تكون للمتقين ، فستكون لك وللمؤمنين معك .
والعاقبة : الحالة التي تَعقب حالةً أخرى . وقد شاعت عند الإطلاق في حالة الخير كقوله : { والعاقبة للتّقوى } [ طه : 132 ].
والتعريف في { العاقبة } للجنس .
واللام في { للمتقين } للاختصاص والملك ، فيقتضي ملك المتقين لجنس العاقبة الحسنة ، فهي ثابتة لهم لا تفوتهم وهي منتفية عن أضدادهم .