تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 3 من سورة الفلق
وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3)
عطف أشياء خاصة هي ممَّا شمِله عموم { من شر ما خلق } [ الفلق : 2 ] ، وهي ثلاثة أنواع من أنواع الشرور :
أحدها : وقت يغلب وقوع الشر فيه وهو الليل .
والثاني : صنف من الناس أقيمت صناعتهم على إرادة الشر بالغير .
والثالث : صنف من الناس ذُو خُلُق من شأنه أن يبعث على إلحاق الأذى بمن تعلق به .
وأعيدت كلمة { من شر } بعد حرف العطف في هذه الجملة . وفي الجملتين المعطوفتين عليها مع أن حرف العطف مغننٍ عن إعادة العامل قصداً لتأكيد الدعاء ، تعرضاً للإِجابة ، وهذا من الابتهال فيناسبه الإِطناب .
والغاسق : وصف الليل إذا اشتدت ظلمته يقال : غَسَق الليل يغسق ، إذا أظلم قال تعالى : { إلى غسق الليل } [ الإسراء : 78 ] ، فالغاسق صفة لموصوف محذوف لظهوره من معنى وصفه مثل الجواري في قوله تعالى : { ومن آياته الجوار في البحر } [ الشورى : 32 ] وتنكير { غاسق } للجنس لأن المراد جنس الليل .
وتنكير { غاسق } في مقام الدعاء يراد به العموم لأن مقام الدعاء يناسب التعميم . ومنه قول الحريري في المقامة الخامسة : «يا أهل ذا المعنى وقيتُم ضُراً» أي وقيتم كل ضر .
وإضافة الشر إلى غاسق من إضافة الاسم إلى زمانه على معنى ( في ) كقوله تعالى : { بَلْ مَكْرُ الليل والنهارِ } [ سبأ : 33 ] .
والليل : تكثر فيه حوادث السوء من اللصوص والسباع والهوام كما تقدم آنفاً .
وتقييد ذلك بظرف { إذا وقب } أي إذا اشتدت ظلمته لأن ذلك وقت يتحيّنه الشطَّار وأصحاب الدعارة والعَيث ، لتحقّق غلبَة الغفلة والنوم على الناس فيه ، يقال : أغْدَر الليلُ ، لأنه إذا اشتد ظلامه كثر الغدْر فيه ، فعبر عن ذلك بأنه أغدَر ، أي صار ذا غَدر على طريق المجاز العقلي .
ومعنى { وقب } دخل وتغلغل في الشيء ، ومنه الوَقْبة : اسم النقرة في الصخرة يجتمع فيها الماء ، ووقبت الشمس غابت ، وخُص بالتعوذ أشد أوقات الليل توقعاً لحصول المكروه .