تفسير ابن عاشور

تفسير الآية رقم 1 من سورة إبراهيم

تقدم الكلام عى الحروف المقطعة في فاتحة سورة البقرة وعلى نظير هذه الحروف في سورة يونس .
{ كِتَابٌ أنزلناه إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلى صِرَاطِ العزيز الحميد }
الكلام على تركيب { الر كتاب أنزلته إليك } كالكلام على قوله تعالى : { ألمص كتاب أنزل إليك } [ سورة الأعراف : 1 2 ] عدا أن هذه الآية ذكر فيها فاعل الإنزال وهو معلوم من مادة الإنزال المشعرة بأنه وارد من قبل العالم العلوي ، فللعلم بمنزله حذف الفاعل في آية سورة الأعراف ، وهو مقتضى الظاهر والإيجاز؛ ولكنه ذكر هنا لأن المقام مقام الامتنان على الناس المستفاد من التعليل بقوله : لتخرج الناس من الظلمات إلى النور } ، ومن ذكر صفة الربوبية بقوله : { بإذن ربهم } ، بخلاف آية سورة الأعراف فإنها في مقام الطمأنة والتصبير للنبيء عليه الصلاة والسلام المنزل إليه الكتاب ، فكان التعرض لذكر المنزل إليه والاقتصار عليه أهم في ذلك المقام مع ما فيه من قضاء حق الإيجاز .
أما التعرض للمنزل إليه هنا فللتنويه بشأنه ، وليجعل له حظ في هذه المنة وهو حظ الوساطة ، كما دل عليه قوله : { لتخرج الناس من الظلمات إلى النور } ، ولما فيه من غم المعاندين والمبغضين للنبيء صلى الله عليه وسلم
ولأجل هذا المقصد وقع إظهار صفات فاعل الإنزال ثلاث مرات في قوله : { بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد } بعد أن كان المقام للإضمار تبعاً لقوله : { أنزلناه }.
وإسناد الإخراج إلى النبي عليه الصلاة والسلام لأنه يبلغ هذا الكتاب المشتمل على تبيين طرق الهداية إلى الإيمان وإظهار فساد الشرك والكفر ، وهو مع التبليغ يبين للناس ويقرب إليهم معاني الكتاب بتفسيره وتبيينه ، ثم بما يبنيه عليه من المواعظ والنذر والبشارة . وإذ قد أسند الإخراج إليه في سياق تعليل إنزال الكتاب إليه عُلِم أن إخراجه إياهم من الظلمات بسبب هذا الكتاب المنزل ، أي بما يشتمل عليه من معاني الهداية .
وتعليل الإنزال بالإخراج من الظلمات دل على أن الهداية هي مراد الله تعالى من الناس ، وأنه لم يتركهم في ضلالهم ، فمن اهتدى فبإرشاد الله ومن ضلّ فبإيثار الضال هوى نفسه على دلائل الإرشاد ، وأمرُ الله لا يكون إلا لحِكم ومصالح بعضها أكبر من بعض .
والإخراج : مستعار للنقل من حال إلى حال . شبه الانتقال بالخروج فشبه النقل بالإخراج .
و { الظلماتُ والنور } استعارة للكفر والإيمان ، لأن الكفر يجعل صاحبه في حيرة فهو كالظلمة في ذلك ، والإيمان يرشد إلى الحق فهو كالنور في إيضاح السبيل . وقد يستخلص السامع من ذلك تمثيل حال المنغمس في الكفر بالمتحير في ظلمة ، وحال انتقاله إلى الإيمان بحال الخارج من ظلمة إلى مكاننٍ نيّر .
وجمع { الظلمات } وإفراد { النور } تقدم في أول سورة الأنعام ( 1 ).
والباء في { بإذن ربهم } للسببية ، والإذنُ : الأمر بفعل يتوقف على رضَى الآمر به ، وهو أمر الله إياه بإرساله إليهم لأنه هو الإذن الذي يتعلق بجميع الناس ، كقوله : { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله . ولما كان الإرسال لمصلحتهم أضيف الإذن إلى وصف الربّ المضاف إلى ضمير الناس ، أي بإذن الذي يدبر مصالحهم .
وقوله : { إلى صراط العزيز الحميد } [ سورة إبراهيم : 1 ] بدل من النور } بإعادة الجار للمبدل منه لزيادة بيان المبدل منه اهتماماً به ، وتأكيد للعامل كقوله تعالى : { قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم } في سورة الأعراف ( 88 ).
ومناسبة الصراط المستعار للدين الحق ، لاستعارة الإخراج والظلمات والنور ولما يتضمنه من التمثيل ، ظاهرة .
واختيار وصف العزيز الحميد } من بين الصفات العُلى لمزيد مناسبتها للمقام ، لأن العزيز الذي لا يُغلب . وإنزال الكتاب برهان على أحقية ما أراده الله من الناس فهو به غالب للمخالفين مقيمٌ الحجة عليهم .
والحميد : بمعنى المحمود ، لأن في إنزال هذا الكتاب نعمة عظيمة ترشد إلى حمده عليه ، وبذلك استوعبَ الوصفان الإشارة إلى الفريقين من كل منساق إلى الاهتداء من أول وهلة ومن مجادل صائر إلى الاهتداء بعد قيام الحجة ونفاد الحيلة .