تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 16 من سورة الحجر
لما جرى الكلام السابق في شأن تكذيب المشركين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وما توركوا به في ذلك ، وكان الأصلُ الأصيل الذي بَنوا عليه صَرْح التكذيب أصلين هما إبطاله إلهية أصنامهم ، وإثباته البعث ، انبرى القرآن يبيّن لهم دلائل تفرد الله تعالى بالإلهية ، فذكر الدلائل الواضحة من خلق السماوات والأرض ، ثم أعقبها بدلائل إمكان البعث من خلق الحياة والموت وانقراض أمم وخلفها بأخرى في قوله تعالى : { وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون } [ سورة الحجر : 23 ] الآية . وصادف ذلك مناسبة ذكر فتح أبواب السماء في تصوير غلوائهم بعنادهم ، فكان الانتقال إليه تخلصاً بديعاً .
وفيه ضرب من الاستدلال على مكابرتهم فإنهم لو أرادوا الحق لكان لهم في دلالة ما هو منهم غنية عن تطلب خوارق العادات .
والخبر مستعمل في التذكير والاستدلال لأن مدلول هذه الأخبار معلوم لديهم .
وافتتح الكلام بلام القسم وحرف التحقيق تنزيلاً للمخاطبين الذاهلين عن الاستدلال بذلك منزلة المتردّد فأكّد لهم الكلام بمؤكدين . ومرجع التأكيد إلى تحقيق الاستدلال وإلى الإلجاء إلى الإقرار بذلك .
والبروج : جمع بُرج بضم الباء . وحقيقته البناء الكبير المتّخذ للسكنى أو للتحصّن . وهو يرادف القصر ، قال تعالى : { ولو كنتم في بروج مشيدة } في سورة النساء ( 78 ).
وأطلق البرج على بقعة معينة من سمت طائفة من النجوم غير السيارة ( وتسمى النجوم الثوابت ) متجمع بعضها بقرب بعض على أبعاد بينها لا تتغير فيما يُشاهد من الجو ، فتلك الطائفة تكون بشكل واحد يشابه نقطاً لو خططت بينها خطوطٌ لخرج منها شِبه صورة حَيوان أو آلة سموا باسمها تلك النجوم المشابهة لهيئتها وهي واقعة في خط سير الشمس .
وقد سماها الأقدمون من علماء التوقيت بما يرادف معنى الدار أو المكان . وسماها العرب بُروجاً ودارات على سبيل الاستعارة المجعولة سبباً لوضع الاسم؛ تخيّلوا أنها منازل للشمس لأنهم وقتوا بجهتها سمت موقع الشمس من قُبة الجو نهاراً فيما يخيل للناظر أن الشمس تسير في شبه قوس الدائرة . وجعلوها اثني عشر مكاناً بعدد شهور السنة الشمسية وما هي في الحقيقة إلا سُموت لجهاتتٍ تُقابلُ كل جهة منها الأرضَ من جهة وراءِ الشمس مدة معينة . ثم إذا انتقل موقع الأرض من مدارها كل شهر من السنة تتغير الجهة المقابلة لها . فبِما كان لها من النظام تَسنّى أن تجعل علامات لمواقيت حلول الفصول الأربعة وحلول الأشهر الاثني عشر ، فهم ضبطوا لتلك العلامات حدوداً وَهمية عينوا مكانها في اللّيل من جهة موقع الشمس في النهار وأعادوا رصدها يوماً فيوماً ، وكلما مضت مدة شهر من السنة ضبطوا للشهر الذي يليه علامات في الجهة المقابلة لموقع الشمس في تلك المدة . وهكذا ، حتى رأوا بعد اثني عشر شهراً أنهم قد رجعوا إلى مقابلة الجهة التي ابتدأوا منها فجعلوا ذلك حولاً كاملاً .
وتلك المسافة التي تخال الشمس قد اجتازتها في مدة السّنة سموها دائرة البروج أو مِنْطقة البروج . وللتمييز بين تلك الطوائف من النجوم جعلوا لها أسماء الأشياء التي شبهوها بها وأضافوا البرج إليها .
وهي على هذا الترتيب ابتداء من برج مدخل فصل الربيع : الحمَل ، الثور ، الجوزاء ، ( مشتقة من الجوز بفتح فسكون الوسط لأنها معترضة في وسط السماء ) ، السَرَطان ، الأسَد ، السُنبلة ، الميزان ، العَقرب ، القَوْس ، الجَدْي ، الدَلْو ، الحوت .
فاعتبروا لبرج الحمل شهر ( أبرير ) وهكذا ، وذلك بمصادفة أن كانت الشمس يومئذٍ في سَمتتِ شكللٍ نجمي شبهوه بنُقَط خطوط صورة كبش . وبذلك يعتقد أن الأقدمين ضبطوا السنة الشمسية وقسموها إلى الفصول الأربعة ، وإلى الأشهر الاثني عشر قبل أن يضبطوا البروج . وإنما ضبطوا البروج لقصد توقيت ابتداء الفصول بالضبط ليعرفوا ما مضى من مدتها وما بقي .
وأول من رسم هذه الرسوم الكلدانيون ، ثم انتقل علمهم إلى بقية الأمم؛ ومنهم العرب فعرفوها وضبطوها وسموها بلغتهم .
ولذلك أقام القرآن الاستدلال بالبروج على عظيم قدرته وانفراده بالخلق لأنهم قد عرفوا دقائقها ونظامها الذي تهيأت به لأن تكون وسيلة ضبط المواقيت بحيث لا تُخلف ملاحظة راصدها . وما خلقها الله بتلك الحالة إلا ليجعلها صالحة لضبط المواقيت كما قال تعالى : { لتعلموا عدد السنين والحساب } [ سورة يونس : 5 ]. ثم ارتقى في الاستدلال بكون هذه البروج العظيمة الصنع قد جُعلت بأشكال تقع موقع الحسن في الأنظار فكانت زينة للناظرين يتمتعون بمشاهدتها في الليل فكانت الفوائد منها عديدة .