تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 41 من سورة النحل
لما ثبتت حكمة البعث بأنها تبيين الذي اختلف فيه الناس من هدى وضلالة ، ومن ذلك أن يتبين أن الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين يعلم منه أنّه بتبيين بالبعث أن الذين آمنوا كانوا صادقين بدلالة المضادة وأنهم مثابون ومكرمون . فلما علم ذلك من السياق وقع التصريح به في هذه الآية .
وأدمج مع ذلك وعدهم بحسن العاقبة في الدنيا مقابلة وعيد الكافرين بسوء العاقبة فيها الواقع بالتعّريض في قوله تعالى : { فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } [ سورة النحل : 36 ].
فالجملة معطوفة على جملة { وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين } [ سورة النحل : 39 ].
والمهاجر : متاركة الدّيار لغرض ما .
و { في } مستعملة في التّعليل ، أي لأجل الله . والكلام على تقدير مضاف يظهر من السّياق . تقديره : هاجروا لأجل مرضاة الله .
وإسناد فعل { ظلموا } إلى المجهول لظهور الفاعل من السّياق وهو المشركون . والظلم يشمل أصناف الاعتداء من الأذى والتعذيب .
والتبوئة : الإسكان . وأطلقت هنا على الجزاء بالحسنى على المهاجرة بطريق المضادّة للمهاجرة ، لأن المهاجرة الخروج من الدّيار فيضادّها الإسكان .
وفي الجمع بين { هاجروا } و { لنبوئنهم } محسّن الطباق . والمعنى : لنجازينّهم جزاءً حسناً . فعبر عن الجزاء بالتّبوئة لأنه جزاء على ترك المباءة .
و { حسنة } صفة لمصدر محذوف جار على «نبوئنهم» ، أي تبوئة حسنة .
وهذا الجزاء يجبر كل ما اشتملت عليه المهاجرة من الأضرار التي لقيها المهاجرون من مفارقة ديارهم وأهليهم وأموالهم ، وما لاقَوُه من الأذى الذي ألجأهم إلى المهاجرة من تعذيب واستهزاء ومَذلّة وفتنة ، فالحسنة تشتمل على تعويضهم دياراً خيراً من ديارهم ، ووطناً خيراً من وطنهم ، وهو المدينة ، وأموالاً خيراً من أموالهم ، وهي ما نالوه من المغانم ومن الخراج . روي أن عُمر رضي الله عنه كان إذا أعطى رجلاً من المهاجرين عطاء قال له : «هذا ما وعدك ربّك في الدنيا ، وما ذخر لك في الآخرة أكبر»؛ وغلبة لأعدائهم في الفتوح وأهمّها فتح مكّة ، وأمناً في حياتهم بما نالوه من السلطان ، قال تعالى : { وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمنا } [ سورة النور : 55 ]. وسبب النزول الذين هاجروا إلى أرض الحبشة من المسلمين لا محالة ، أو الذين هاجروا إلى المدينة الهجرة الأولى قبل هجرة النبي وبقية أصحابه رضي الله عنهم مثل مصعب بن عمير وأصحابه إن كانت هذه الآية نازلة بعد الهجرة الأولى إلى المدينة . وكلا الاحتمالين لا ينافي كون السورة مكّية . ولا يقتضي تخصيص أولئك بهذا الوعد .
ثم أعقب هذا الوعد بالوعد العظيم المقصود وهو قوله : { ولأجر الآخرة أكبر }. ومعنى { أكبر } أنّه أهمّ وأنفع . وإضافته إلى { الآخرة } على معنى ( في ) ، أي الأمر الذي في الآخرة .
وجملة { لو كانوا يعلمون } معترضة ، وهي استئناف بياني ناشىء عن جملة الوعد كلّها ، لأن ذلك الوعد العظيم بخير الدنيا والآخرة يثير في نفوس السامعين أن يسألوا كيف لم يقتدِ بهم من بقوا على الكفر فتقع جملة { لو كانوا يعلمون } بياناً لما استبهم على السّائِل .
والتقدير : لو كانوا يعلمون ذلك لاقتدوا بهم ولكنّهم لا يعلمون . فضمير { يعلمون } عائد إلى { الذين كفروا } [ سورة النحل : 39 ].
ويجوز أن يكون السؤال المثار هو : كيف يحْزن المهاجرون على ما تركوه من ديارهم وأموالهم وأهليهم ، فيكون : المعنى لو كان المهاجرون يعلمون ما أعدّ لهم عِلم مشاهدة لما حزِنوا على مفارقة ديارهم ولكانت هجرتهم عن شوق إلى ما يلاقونه بعد هجرتهم ، لأن تأثير العلم الحسّي على المزاج الإنساني أقوى من العلم العقلي لعدم احتياج العلم الحسّي إلى استعمال نظر واستدلال ، ولعدم اشتمال العلم العقلي على تفاصيل الكيفيات التي تحبّها النفوس وترتمي إليها الشهوات ، كما أشار إليه قوله تعالى : { قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } [ سورة البقرة : 260 ]. فليس المراد بقوله تعالى : { لو كانوا يعلمون } لو كانوا يعتقدون ويؤمنون ، لأن ذلك حاصل لا يناسب موقع { لو } الامتناعية .
فضمير { يعلمون } على هذا «للذين هاجروا» . وفي هذا الوجه تتناسق الضمائر .