تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 89 من سورة النحل
تكرير لجملة { ويوم نبعث من كل أمةٍ شهيداً ثم لا يؤذن للذين كفروا } [ سورة النحل : 84 ] ليبنى عليه عطف جملة وجئنا بك شهيداً على هؤلاء وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا على هؤلآء } على جملة { ويوم نبعث في كل أمةٍ شهيداً عليهم }.
ولما كان تكريراً أعيد نظير الجملة على صورة الجملة المؤكّدة مقترنة بالواو ، ولأن في هذه الجملة زيادة وصف { من أنفسهم } فحصلت مغايرة مع الجملة السابقة والمغايرة مقتضية للعطف أيضاً .
ومن دواعي تكرير مضمون الجملة السابقة أنه لبعد ما بين الجملتين بما اعترض بينهما من قوله تعالى : { ثم لا يؤذن للذين كفروا } إلى قوله : { بما كانوا يفسدون } [ سورة النحل : 84 ، 88 ] ، فهو كالإعادة في قول لبيد :
فتنازعا سبطاً يطير طلالُه ... كدخان مشعلة يشبّ ضِرامها
مشمولةٍ غلثت بنابت عرفج ... كدخان نار ساطع أسنامها
مع أن الإعادة هنا أجدر لأن الفصل أطول .
وقد حصل من هذه الإعادة تأكيد التهديد والتسجيل .
وعُدّي فعل { نبعث } هنا بحرف { في } ، وعُدّي نظيره في الجملة السابقة بحرف ( مِن ) ليحصل التفنّن بين المكرّرين تجديداً لنشاط السامعين .
وزيد في هذه الجملة أن الشهيد يكون من أنفسهم زيادة في التذكير بأن شهادة الرسل على الأمم شهادة لا مطعن لهم فيها لأنها شهود من قومهم لا يجد المشهود عليهم فيها مساغاً للطعن .
ولم تخل أيضاً بعد التعريض بالتحذير من صدّ الكافرين عن سبيل الله من حسن موقع تذكير المسلمين بنعمة الله عليهم إذ بعث فيهم شهيداً يشهد لهم بما ينفعهم وبما يضرّ أعداءهم .
والقول في بقيّة هذه الجملة مثل ما سبق في نظيرتها .
ولما كان بعث الشهداء للأمم الماضية مراداً به بعثهم يوم القيامة عبّر عنه بالمضارع .
وجملة { وجئنا بك شهيداً } يجوز أن تكون معطوفة على جملة { ويوم نبعث } كلّها . فالمعنى : وجئنا بك لما أرسلناك إلى أمّتك شهيداً عليهم ، أي مقدّراً أن تكون شهيداً عليهم يوم القيامة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان حيّاً في آن نزول هذه الآية كان شهيداً في الحال والاستقبال ، فاختير لفظ الماضي في { جئنا } للإشارة إلى أنه مجيء حصل من يوم بعثته .
ويعلم من ذلك أنه يحصل يوم القيامة بطريق المساواة لبقيّة إخوانه الشهداء على الأمم ، إذ المقصود من ذلك كلّه تهديد قومه وتحذيرهم . وهذا الوجه شديد المناسبة بأن يعطف عليه قوله تعالى : { ونزلنا عليك الكتاب } [ سورة النحل : 89 ] الآية .
وقد علمت من هذا أن جملة { وجئنا بك شهيداً } ليست معطوفة على { نبعث } بحيث تدخل في حيّز الظرف وهو { يوم } ، بل معطوفة على مجموع جملة { يوم نبعث } ، لأن المقصود وجئنا بك شهيداً من وقت إرسالك . وعلى هذا يكون الكلام تَمّ عند قوله : { من أنفسهم } ، فيحسن الوقف عليه لذلك .
ويجوز أن تعطف على جملة { نبعث في كل أمّة شهيداً } فتدخل في حيّز الظرف ويكون الماضي مستعملاً في معنى الاستقبال مجازاً لتحقّق وقوعه ، فشابه به ما حصل ومضى ، فيكون الوقف على قوله : { شهيداً }. ويتحصّل من تغيير صيغة الفعل عن المضارع إلى الماضي تهيئة عطف { ونزلنا عليك الكتاب }.
ولم يوصف الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه من أنفسهم لأنه مبعوث إلى جميع الأمم ، وشهيد عليهم جميعاً ، وأما وصفه بذلك في قوله تعالى : { لقد جاءكم رسول من أنفُسكم } في سورة التوبة ( 128 ) فذلك وصف كاشف اقتضاه مقام التّذكير للمخاطبين من المنافقين الذين ضَمّوا إلى الكفر بالله كفران نعمة بعث رسول إليهم من قومهم .
وليس في قوله : { على هؤلاء } ما يقتضي تخصيص شهادته بكونها شهادة على المتحدّث عنهم من أهل الشرك ، ولكن اقتصر عليهم لأن الكلام جار في تهديدهم وتحذيرهم .
و { هؤلاء } إشارة إلى حاضر في الذّهن وهم المشركون الذين أكثر الحديث عليهم . وقد تتبّعتُ مواقع أمثال اسم الإشارة هذا في القرآن فرأيته يُعنى به المشركون من أهل مكّة . وتقدّم بيانه عند قوله تعالى : { وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } في سورة النساء ( 41 ) ، وقوله تعالى : { فإن يكفر بها هؤلاء } في سورة الأنعام ( 89 ).
عطف على جملة { وجئنا بك شهيداً } أي أرسلناك شهيداً على المشركين وأنزلنا عليك القرآن لينتفع به المسلمون ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم شهيد على المكذّبين ومرشد للمؤمنين .
وهذا تخلّص للشروع في تعداد النّعم على المؤمنين من نعم الإرشاد ونعم الجزاء على الامتثال وبيان بركات هذا الكتاب المنزّل لهم .
وتعريف الكتاب للعهد ، وهو القرآن .
و { تبياناً } مفعول لأجله . والتّبيان مصدر دالّ على المبالغة في المصدرية ، ثم أريد به اسم الفاعل فحصلت مبالغتان ، وهو بكسر التاء ، ولا يوجد مصدر بوزن تفعال بكسر التاء إلا تِبيان بمعنى البيان كما هنا . وتِلقاء بمعنى اللّقاء لا بمعنى المكان ، وما سوى ذلك من المصادر الواردة على هذه الزّنة فهي بفتح التاء .
وأما أسماء الذوات والصفاتُ الواردة على هذه الزنة فهي بكسر التاء وهي قليلة ، عدّ منها : تمثال ، وتنبال ، للقصير . وأنهاها ابن مالك في نظم الفوائد إلى أربع عشرة كلمة .
و«كلّ شيء» يفيد العموم؛ إلا أنه عموم عرفي في دائرة ما لمثله تجيء الأديان والشّرائع : من إصلاح النفوس ، وإكمال الأخلاق ، وتقويم المجتمع المدنيّ ، وتبيّن الحقوق ، وما تتوقّف عليه الدعوة من الاستدلال على الوحدانية ، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم وما يأتي في خلال ذلك من الحقائق العلمية والدقائق الكونية ، ووصف أحوال الأمم ، وأسباب فلاحها وخسارها ، والموعظة بآثارها بشواهد التاريخ ، وما يتخلّل ذلك من قوانينهم وحضاراتهم وصنائعهم .
وفي خلال ذلك كلّه أسرار ونكت من أصول العلوم والمعارف صالحة لأن تكون بياناً لكل شيء على وجه العموم الحقيقي إن سلك في بيانها طريق التفصيل واستنير فيها بما شرح الرسول صلى الله عليه وسلم وما قفّاه به أصحابه وعلماء أمّته ، ثم ما يعود إلى الترغيب والترهيب من وصف ما أعدّ للطائعين وما أعدّ للمعرضين ، ووصف عالم الغيب والحياة الآخرة .
ففي كل ذلك بيان لكل شيء يقصد بيانه للتبصّر في هذا الغرض الجليل ، فيؤول ذلك العموم العرفي بصريحه إلى عموم حقيقي بضمنه ولوازمه . وهذا من أبدع الإعجاز .
وخصّ بالذّكر الهدى والرحمة والبُشرى لأهميتها؛ فالهدى ما يرجع من التّبيان إلى تقويم العقائد والأفهام والإنقاذ من الضلال . والرحمة ما يرجع منه إلى سعادة الحياتين الدنيا والأخرى ، والبُشرى ما فيه من الوعد بالحسنيين الدنيوية والأخروية .
وكل ذلك للمسلمين دون غيرهم لأن غيرهم لما أعرضوا عنه حَرموا أنفسهم الانتفاع بخواصّه كلها .
فاللام في { لكل شيء } متعلق بالتبيان ، وهي لام التقوية ، لأن «كل شيء» في معنى المفعول به ل { تبياناً }. واللام في { للمسلمين } لام العلّة يتنازع تعلّقها «تبيان وهدى ورحمة وبُشرى» وهذا هو الوجه .