تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 151 من سورة البقرة
تشبيهن للعلتين من قوله : { لأتم } [ البقرة : 150 ] وقوله : { ولعلكم تهتدون } [ البقرة : 150 ] أي ذلك من نعمتي عليكم كنعمة إرسال محمد صلى الله عليه وسلم وجعل الإرسال مشبهاً به لأنه أسبق وأظهر تحقيقاً للمشبه أي إن المبادىء دلت على الغايات وهذا كقوله في الحديث « كما صليت على إبراهيم » ونكر ( رسول ) للتعظيم ولتجري عليه الصفات التي كل واحدة منها نعمة خاصة ، فالخطاب في قوله : { فيكم } وما بعده للمؤمنين من المهاجرين والأنصار تذكيراً لهم بنعمة الله عليهم بأن بعث إليهم رسولاً بين ظهرانيهم ومن قومهم لأن ذلك أقوى تيسيراً لهدايتهم ، وهذا على نحو دعوة إبراهيم : { ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم } [ البقرة : 129 ] وقد امتن الله على عموم المؤمنين منالعرب وغيرهم بقوله : { لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } [ آل عمران : 164 ] أي جنسهم الإنساني لأن ذلك آنس لهم مما لو كان رسولهم من الملائكة قال تعالى : ولذلك علق بفعل { أرسلنا } حرفُ فِي ولم يعلَّق به حرف إلى كما في قوله : { إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم } [ المزمل : 15 ] ، لأن ذلك مقام احتجاج وهذا مقام امتنان فناسب أن يذكر ما به تمام المنة وهي أن جعل رسولهم فيهم ومنهم ، أي هو موجود في قومهم وهو عربي مثلهم ، والمسلمون يومئذٍ هم العرب أي الذين يتكلمون باللغة العربية فالأمة العربية يومئذٍ تتكلم بلسان واحد سواء في ذلك العدنانيون والقحطانيون ومن تبعهم من الأحلاف والموالي مثل سلمانَ الفارسي وبلال الحبشي وعبدِ الله بن سَلاَم الإسرائيلي ، إذ نعمة الرسالة في الإبلاغ والإفهام ، فالرسول يكلمهم بلسانهم فيفهمون جميع مقاصده ، ويدركون إعجاز القرآن ، ويفوزون بمزية نقل هذا الدين إلى الأمم ، وهذه المزية ينالها كل من تعلَّم اللسان العربي كغالب الأمم الإسلامية ، وبذلك كان تبليغ الإسلام بواسطة أمة كاملة فيكون نقله متواتراً ، ويسهل انتشاره سريعاً .
والرسول المُرسَل فهو فَعُول بمعنى المفعول مثل ذَلول ، وسيأتي الكلام عليه من جهة مطابقة موصوفة عند قوله تعالى : { فقولا إنا رسول رب العالمين } [ الشعراء : 16 ] في سورة الشعراء .
وقوله : { يتلوا عليكم أياتنا } أي يقرأ عليكم القرآن وسماه أولاً آيات باعتبار كون كل كلام منه معجزة ، وسماه ثانياً كتاباً باعتبار كونه كتاب شريعة ، وقد تقدم نظيره آنفاً عند قوله تعالى : { ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم أياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة } [ البقرة : 129 ] . عبر بيتلو لأن نزول القرآن مستمر وقراءة النبي له متوالية وفي كل قراءة يحصل علم بالمعجزة للسامعين .
وقوله : { ويزكيكم } الخ التزكية تطهير النفس مشتقة من الزكاة وهي النماء ، وذلك لأن في أصل خلقة النفوس كمالاتتٍ وطهاراتتٍ تعترضُها أرجاس ناشئة عن ضلال أو تضليل ، فتهذيب النفوس وتقويمها يزيدها من ذلك الخير المودع فيها ، قال تعالى :
{ لقد خلقنا الإنسان في أحسن تكوين ، ثم رددناه أسفل سافلين ، إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات } [ التين : 4 6 ] ، وفي الحديث : « بُعثت لأُتمم حُسْن الأخلاق » ففي الإرشاد إلى الصلاح والكمال نماء لما أودع الله في النفوس من الخير في الفطرة .
وقوله : { ويعلمكم الكتاب والحكمة } أي يعلمكم الشريعة فالكاب هنا هو القرآن باعتبار كونه كتاب تشريع لا باعتبار كونه معجزاً ويعلمكم أصولَ الفضائل ، فالحكمة هي التعاليم المانعة من الوقوع في الخطأ والفساد ، وتقدم نظيره في دعوة إبراهيم وسيأتي أيضاً عند قوله تعالى : { يؤتي الحكمة من يشاء } [ البقرة : 269 ] في هذه السورة .
وقدمت جملة : { ويزكيكم على جملة : ويعلمكم الكتاب والحكمة هنا عكس ما في الآية السابقة في حكاية قول إبراهيم : { يتلوا عليهم أياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم } [ البقرة : 129 ] ، لأن المقام هنا للامتنان على المسلمين فقدم فيها ما يفيد معنى المنفعة الحاصلة من تلاوة الآيات عليهم وهي منفعة تزكية نفوسهم اهتماماً بها وبعثاً لها بالحرص على تحصيل وسائلها وتعجيلاً للبشارة بها . فأما في دعوة إبراهيم فقد رتبت الجمل على حسب ترتيب حصول ما تضمنته في الخارج ، مع ما في ذلك التخالف من التفنن .
وقوله : { ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون } تعميم لكل ما كان غير شريعة ولا حكمة من معرفة أحوال الأمم وأحوال سياسة الدول وأحوال الآخرة وغير ذلك .
وإنما أعاد قوله : { ويعلمكم } مع صحة الاستغناء عنه بالعطف تنصيصاً على المغايرة لئلا يظن أن : { ما لم تكونوا تعلمون } هو الكتاب والحكمة ، وتنصيصاً على أن : { ما لم تكونوا } مفعولاً لا مبتدأ حتى لا يترقب السامع خبراً له فيضل فهمه في ذلك الترقب ، واعلم أأن حرف العطف إذا جيء معه بإعادة عامل كان عاطفه عاملاً على مثله فصار من عطف الجمل لكن العاطف حينئذٍ أشبه بالمؤكد لمدلول العامل .