تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 181 من سورة البقرة
الضمائر البارزة في ( بدله وسمعه وإثمه ويبدلونه ) عائدة إلى القول أو الكلام الذي يقوله الموصي ودل عليه لفظ { الوصية } [ البقرة : 180 ] ، وقد أكد ذلك بما دل عليه قوله { سَمِعَهُ } إذ إنما تسمع الأقوال وقيل هي عائدة إلى الإيصاء المفهوم من قوله : { الوصية } أي كما يعود الضمير على المصدر المأخوذ من الفعل نحو قوله تعالى : { اعدلوا هو أقرب للتقوى } [ المائدة : 8 ] ، ولك أن تجعل الضمير عائداً إلى { المعروف } [ البقرة : 180 ] ، والمعنى فمن بدل الوصية الواقعة بالمعروف ، لأن الإثم في تبديل المعروف ، بدليل قوله الآتي : { فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه } [ البقرة : 182 ] .
والمراد من التبديل هنا الإبطال أو النقص؛ وما صْدَقُ ( مَنْ بدَّله ) هو الذي بيده تنفيذ الوصية من خاصة الورثة كالأبناء ومن الشهود عليها بإشهاد من الموصي أو بحضور موطن الوصية كما في الوصية في السفر المذكورة في سورة المائدة : { لانشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الأثمين } [ المائدة : 106 ] فالتبديل مستعمل في معناه المجازي لأن حقيقة التبديل جعل شيء في مكان شيء آخر والنقض يستلزم الإتيان بضد المنقوض وتقييد التبديل بظرف { بعدما سمعه } تعليل للوعيد أي لأنه بدل ما سمعه وتحققه وإلاّ فإن التبديل لا يتصور إلاّ في معلوم مسموع؛ إذ لا تتوجه النفوس إلى المجهول .
والقصر في قوله : { فإنما إثمه } إضافي ، لنفي الإثم عن الموصي وإلاّ فإن إثمه أيضاً يكون على الذي يأخذ ما يجعله له الموصي مع علمه إذا حاباه منفذ الوصية أو الحاكم فإن الحُكم لا يحل حراماً ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقتطع له قطعة من نار» ، وإنما انتفى الإثم عن الموصي لأنه استبرأ لنفسه حين أوصى بالمعروف فلا وزر عليه في مخالفة الناس بعده لما أوصى به ، إذ { ألا تزر وازرة وزر أخرى ، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } [ النجم : 38 39 ] .
والمقصود من هذا القصر إبطال تعلل بعض الناس بترك الوصية بعلة خيفة ألاّ ينفذها الموكول إليهم تنفيذُها ، أي فعليكم بالإيصاء ووجوب التنفيذ متعين على ناظر الوصية فإن بدله فعليه إثمه ، وقد دل قوله : { فإنما إثمه على الذين يبدلونه } أي هذا التبديل يمنعه الشرع ويضرب ولاةُ الأمور على يد من يحاول هذا التبديل؛ لأن الإثم لا يقرر شرعاً .
وقوله : { إن الله سميع عليم } وعيد للمبدل ، لأن الله لا يخفى عليه شيء وإن تحيل الناس لإبطال الحقوق بوجوه الحيل وجارُوا بأنواع الجور فالله سميع وصية الموصي ويعلم فعل المبدل ، وإذا كان سميعاً عليماً وهو قادر فلا حائل بينه وبين مجازاة المبدل . والتأكيد بإن ناظر إلى حالة المبدل الحكمية في قوله : { فمن بدله } لأنه في إقدامه على التبديل يكون كمن ينكر أنَّ الله عالم فلذلك أَكِّد له الحكم تنزيلاً له منزلة المنكر .