تفسير ابن عاشور

تفسير الآية رقم 259 من سورة البقرة

تَخيير في التشبيه على طريقة التشبيه ، وقد تقدم بيانها عند قوله تعالى : { أو كصيب من السماء } [ البقرة : 19 ] لأنّ قوله : { ألم تر إلى الذي حاجَ إبرهيم } [ البقرة : 258 ] في معنى التمثيل والتشبيه كما تقدم ، وهو مراد صاحب «الكشاف» بقوله : «ويجوز أن يحمل على المعنى دون اللفظ كأنه قيل : أرأيت كالذي حاجَّ أو كالذي مرَّ» وإذ قد قرّر بالآية قبلها ثبوت انفراد الله بالإلااهية ، وذلك أصل الإسلام ، أعقب بإثبات البعث الذي إنكاره أصل أهل الإشراك .
واعلم أنّ العرب تستعمل الصيغتين في التعجّب : يقولون ألم تر إلى كذا ، ويقولون أرأيتَ مثل كذا أو ككَذا ، وقد يقال ألم تر ككذا لأنّهم يقولون لم أر كاليوم في الخير أو في الشر ، وفي الحَديث «فلم أَره كاليوم مَنْظَرا قط» ، وإذا كان ذلك يقال في الخير جاز أن يدخل عليه الاستفهام فتقول : ألم تر كاليوم في الخير والشر ، وحيث حذف الفعل المستفهَم عنه فلك أن تقدره على الوجهين ، ومال صاحب «الكشاف» إلى تقديره : أرأيتَ كالذي لأنّه الغالب في التعجّب مع كاف التشبيه .
والذي مر على قريةٍ قيل هو أرْمِيَا بن حلقيا ، وقيل هو عُزَير بن شرخيا ( عزرا بن سَرَّيَّا ) . والقرية بيت المقدس في أكثر الأقوال ، والذي يظهر لي أنّه حزقيال ابن بوزي نبيء إسرائيل كان معاصراً لأرميا ودانيال وكان من جملة الذين أسرهم بختنصر إلى بابل في أوائل القرن السادس قبل المسيح ، وذلك أنه لما رأى عزم بختنصر على استئصال اليهود وجمعه آثار الهيكل ليأتي بها إلى بابل ، جمع كتب شريعة موسى وتابوتَ العهد وعصَا موسى ورماها في بئر في أورشليم خشية أن يحرقها بختنصر ، ولعله اتّخذ علامة يعرفها بها وجعلها سراً بينه وبين أنبياء زمانِه وورثتهم من الأنبياء . فلما أخرج إلى بابل بقي هنالك وكتب كتاباً في مَراءً رآها وَحْيا تدل على مصائب اليهودِ وما يرجى لهم من الخلاص ، وكان آخر ما كتبه في السنة الخامسة والعشرين بعد سبي اليهود ، ولم يعرف له خبر بعدُ كما ورد في تاريخهم ، ويظن أنّه مات أو قُتل . ومن جملة ما كتبه «أخْرَجَنِي روحُ الرب وأنزلني في وسط البقعة وهي ملآنة عظاماً كثيرة وأمّرَني عليها وإذا تلك البقعة يابسة فقال لي : أتَحيَى هذه العظامُ؟ فقلت : يا سيدي الرّب أنتَ تعلم . فقال لي : تنبأْ على هذه العظام وقل لها : أيتها العظام اليابسة اسمعي كلمة الرب قال ها أنا ذا أدخل فيكم الروح وأضع عليكم عصباً وأكسوكم لحماً وجلداً . فتنبأت ، كما أمرني فتقاربتْ العظام كل عظم إلى عطمه ، ونظرت وإذا باللحم والعصب كساها وبسط الجلد عليها من فوق ودخل فيهم الروح فحيُوا وقاموا على أقدامهم جيش عظيم جداً» .
ولما كانت رؤيا الأنبياء وحيا فلا شكّ أن الله لما أعاد عُمران أورشليم في عهد عزرا النبي في حدود سنة450 قبل المسيح أحيا النبي حزقيال عليه السلام ليرى مصداق نبوته ، وأراه إحياء العظام ، وأراه آية في طعامه وشرابه وحماره وهذه مخاطبة بين الخالق وبعض أصفيائه على طريق المعجزة وجعل خبره آية للناس من أهل الإيمان الذين يوقنون بما أخبرهم الله تعالى ، أو لقوم أطلعهم الله على ذلك من أصفيائه ، أو لأهل القرية التي كان فيها وفُقِد من بينهم فجاءهم بعد مائة سنة وتحققه من يعرفه بصفاته ، فيكون قوله تعالى : { مرّ على قرية } إشارة إلى قوله : «أخرجني روح الرب وأمّرني عليها» . فقوله : { قال أنَّى يحيي هذه الله } إشارة إلى قوله أتحيي هذه العظام فقلت يا سيدي أنت تعلم لأنّ كلامه هذا ينبىء باستبعاد إحيائها ، ويكون قوله تعالى : { فأماته الله مائة عام } إلخ مما زاده القرآن من البيان على ما في كتب اليهود لأنّهم كتبوها بعد مرور أزمنة ، ويظن من هنا أنّه مات في حدود سنة 560 قبل المسيح ، وكان تجديد أورشليم في حدود 458 فتلك مائة سنة تقريباً ، ويكون قوله : { وانظر إلى العظام كيف ننشرها ثم نكسوها لحمَا } تذكرة له بتلك النبوءة وهي تجديد مدينة إسرائيل .
وقوله : { وهي خاوية على عروشها } الخاوية : الفارغة من السكان والبناء . والعروش جمع عرش وهو السقف . والظرف مستقرٌ في موضع الحال ، والمعنى أنّها خاوية ساقطة على سقفها وذلك أشدّ الخراب لأنّ أول ما يسقط من البناء السُقُف ثم تسقط الجدران على تلك السُقُف . والقرية هي بيت المقدس رآها في نومه كذلك أو رآها حين خربها رسل بختنصر ، والظاهر الأول لأنّه كان ممن سُبي مع ( يهويا قيم ) ملككِ إسرائيل وهو لم يقع التخريب في زمنه بل وقع رفي زمن ( صدقيا ) أخيه بعد إحدى عشرة سنة .
وقوله : { أنّى يحيي هذه الله بعد موتها } استفهامُ إنكار واستبعاد ، وقوله : { فأماته الله } التعقيب فيه بحسب المعقب فلا يلزم أن يكون أماته في وقت قوله : { أنَّى يحيي هذه الله } . وقد قيل : إنّه نام فأماته الله في نومه .
وقوله : { ثم بعثه } أي أحياه وهي حياة خاصة ردّت بها روحه إلى جسده؛ لأنّ جسده لم يبلَ كسائر الأنبياء ، وهذا بعث خارق للعادة وهو غير بعث الحشر .
وقوله : { لبثت يوماً أو بعض يوم } اعتقد ذلك بعلم أودعه الله فيه أو لأنّه تذكر أنّه نام في أول النهار ووجد الوقت الذي أفاق فيه آخر نهار .
وقوله : { فانظر إلى طعامك } تفريع على قوله : { لبثت مائة عام } . والأمرُ بالنظر أمر للاعتبار أي فانظُره في حال أنّه لم يتسنه ، والظاهر أنّ الطعام والشراب كانا معه حين أميت أو كانا موضوعين في قبره إذا كان من أمة أو في بلد يضعون الطعام للموتى المكرّمين كما يفعل المصريون القدماء ، أو كان معه طعام حين خرج فأماته الله في نومه كما قيل ذلك .
ومعنى { لم يتسنه } لم يتغيّر ، وأصله مشتق من السَّنَة لأنّ مر السنين يوجب التغيّر وهو مثل تحجَّرَ الطين ، والهاء أصلية لا هاء سكت ، وربما عاملوا هَاء سنة معاملة التاء في الاشتقاق فقالوا أسنت فلان إذا أصابته سنة أي مجاعة ، قال مطرود الخزاعي ، أو ابن الزبعري
: ... عَمْرُو الذي هشَم الثريدَ لقومِه
قوممٍ بمَكَة مُسنتين عجافِ ... وقوله : { وانظر إلى حمارك } قيل : كان حماره قد بلي فلم تبق إلاّ عظامه فأحياه الله أمامه . ولم يؤت مع قوله : { وانظر إلى حمارك } بذكر الحالة التي هي محل الاعتبار لأنّ مجرد النظر إليه كاف ، فٌّءّه رآه عظاماً ثم رآه حيا ، ولعلّه هلك فبقي بتلك الساحة التي كان فيها حزقيال بعيداً عن العُمران ، وقد جمع الله له أنواع الإحياء إذْ أحيى جسده بنفخ الروح عن غير إعادة وأحيى طعامه بحفظه من التغيّر وأحيى حماره بالإعادة فكان آية عظيمة للناس الموقنين بذلك ، ولعلّ الله أطْلَع على ذلك الإحياءِ بعض الأحياء من أصفيائه .
فقوله : { ولنجعلك آية } معطوف على مقدر دل عليه قوله { فانظر إلى طعامك } وانظر إلى حمارك؛ فإن الأمر فيه للاعتبار لأنّه ناظر إلى ذلك لا محالة ، والمقصود اعتباره في استبعاده أن يُحيي الله القرية بعد موتها ، فكان من قوة الكلام انظر إلى ما ذكر جعلناه آية لك على البعث وجعلناك آية للناس لأنّهم لم يروا طعامه وشرابَه وحماره ، ولكن رأوا ذاته وتحققّوه بصفاته . ثم قال له : وانظر إلى العظام كيف ننشرها ، والظاهر أنّ المراد عظام بعض الآدميين الذين هلكوا ، أو أراد عظام الحمار فتكون ( أل ) عوضاً عن المضاف إليه فيكون قوله إلى العظام في قوة البدل من حمارك إلاّ أنّه برز فيه العامل المنويّ تكريرُه .
وقرأ جمهور العشرة { نُنْشِرها } بالرّاء مضارع أنْشَر الرباعي بمعنى الإحياء . وقرأه ابن عامر وحمزة وعاصم والكسائي وخلف : { نُنشِزها } بالزاي مضارع أنشزه إذا رفعه ، والنشز الارتفاع ، والمراد ارتفاعها حين تغلظ بإحاطة العصب واللحم والدم بها فحصل من القراءتين معنيان لكملة واحدة ، وفي كتاب ( حزقيال ) «فتقاربت العِظام كل عظم إلى عظمه ، ونظرتُ وإذا بالعصب واللحم كساها وبسط الجلد عليها» .
وقوله : { قال أعلم أن الله على كل شيء قدير } قرأ الجمهور أعلم بهمزة قطع على أنّه مضارع عَلم فيكون جوابَ الذي مر على قرية عن قول الله له { فانظر إلى طعامك } الآية ، وجاء بالمضارع ليدل على ما في كلام هذا النبي من الدلالة على تجدد علمه بذلك لأنه عَلمِه في قبلُ وتجدد علمه إياه . وقرأه حمزة والكسائي بهمزة وصل على أنه من كلام الله تعالى ، وكان الظاهر أن يكون معطوفاً على { فانظر إلى طعامك } لكنّه ترك عطفه لأنّه جُعل كالنتيجة للاستدلال بقوله : { فانظر إلى طعامك وشرابك } الآية .