تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 37 من سورة البقرة
جاء بالفاء إيذاناً بمبادرة آدم بطلب العفو . والتلقي استقبال إكرام ومسرة قال تعالى : { وتتلقاهم الملائكة } [ الأنبياء : 103 ] ووجه دلالته على ذلك أنه صيغة تفعل من لقيه وهي دالة على التكلف لحصوله وتطلبه وإنما يتكلف ويتطلب لقاء الأمر المحبوب بخلاف لاقى فلا يدل على كون الملاقى محبوباً بل تقول لاقى العدو . واللقاء الحضور نحو الغير بقصد أو بغير قصد وفي خير أو شر ، قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً } [ الأنفال : 45 ] الآية فالتعبير بتلقى هنا مؤذن بأن الكلمات التي أخذها آدم كلمات نافعة له فعلم أنها ليست كلمات زجر وتوبيخ بل كلمات عفو ومغفرة ورضى وهي إما كلمات لقنها آدم من قبل الله تعالى ليقولها طالباً المغفرة وإما كلمات إعلام من الله إياه بأنه عفا عنه بعد أن أهبطه من الجنة اكتفاء بذلك في العقوبة ، ومما يدل على أنها كلمات عفو عطف { فتاب عليه } بالفاء إذ لو كانت كلمات توبيخ لما صح التسبب .
وتلقي آدم للكلمات إما بطريق الوحي أو الإلهام . ولهم في تعيين هذه الكلمات روايات أعرضنا عنها لقلة جدوى الاشتغال بذلك ، فقد قال آدم الكلمات فتيب عليه فلنهتم نحن بما ينفعنا من الكلام الصالح والفعل الصالح .
ولم تذكر توبة حواء هنا مع أنها مذكورة في مواضع أخرى نحو قوله : { قالا ربنا ظلمنا أنفسنا } [ الأعراف : 23 ] لظهور أنها تتبعه في سائر أحواله وأنه أرشدها إلى ما أرشد إليه ، وإنما لم يذكر في هذه الآية لأن الكلام جرى على الابتداء بتكريم آدم وجعله في الأرض خليفة فكان الاعتناء بذكر تقلباته هو الغرض المقصود .
وأصل معنى تاب رجع ونظيره ثاب بالمثلثة ، ولما كانت التوبة رجوعاً من التائب إلى الطاعة ونبذاً للعصيان وكان قبولها رجوعاً من المتوب إليه إلى الرضى وحسن المعاملة وصف بذلك رجوع العاصي عن العصيان ورجوع المعصي عن العقاب فقالوا تاب فلان لفلان فتاب عليه لأنهم ضمنوا الثاني معنى عطف ورضى فاختلاف مفادي هذا الفعل باختلاف الحرف الذي يتعدى به وكان أصله مبنياً على المشاكلة .
والتوبة تتركب من علم وحال وعمل ، فالعلم هو معرفة الذنب والحال هو تألم النفس من ذلك الضرر ويسمى ندماً ، والعمل هو الترك للإثم وتدارك ما يمكن تداركه وهو المقصود من التوبة ، وأما الندم فهو الباعث على العمل ولذلك ورد في الحديث : «الندم توبة» قاله الغزالي ، قلت : أي لأنه سببها ضرورة أنه لم يقصر لأن أحد الجزءين غير معرفة .
ثم التعبير بتاب عليه هنا مشعر بأن أكل آدم من الشجرة خطيئة إثم غير أن الخطيئة يومئذ لم يكن مرتباً عليها جزاءُ عقاب أخروي ولا نقص في الدين ولكنها أوجبت تأديباً عاجلاً لأن الإنسان يومئذ في طور كطور الصبا فلذلك لم يكن ارتكابها بقادح في نبوءة آدم على أنها لا يظهر أن تعد من الكبائر بل قصارها أن تكون من الصغائر إذ ليس فيها معنى يؤذن بقلة اكتراث بالأمر ولا يترتب عليه فساد ، وفي عصمة الأنبياء من الصغائر خلاف بين أصحاب الأشعري وبين الماتريدي وهي في كتب الكلام ، على أن نبوءة آدم فيما يظهر كانت بعد النزول إلى الأرض فلم تكن له عصمة قبل ذلك إذ العصمة عند النبوءة .
وعندي وبعضه مأخوذ من كلامهم أن ذلك العالم لم يكن عالم تكليف بالمعنى المتعارف عند أهل الشرائع بل عالم تربية فقط فتكون خطيئة آدم ومعصيته مخالفة تأديبية ولذلك كان الجزاء عليها جارياً على طريقة العقوبات التأديبية بالحرمان مما جره إلى المعصية ، فإطلاق المعصية والتوبة وظلم النفس على جميع ذلك هو بغير المعنى الشرعي المعروف بل هي معصية كبيرة وتوبة بمعنى الندم والرجوع إلى التزام حسن السلوك ، وتوبة الله عليه بمعنى الرضى لا بمعنى غفران الذنوب ، وظلم النفس بمعنى التسبب في حرمانها من لذات كثيرة بسبب لذة قليلة فهو قد خالف ما كان ينبغي أن لا يخالفه ويدل لذلك قوله بعد ذلك : { فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي إلى قوله خالدون } [ البقرة : 38 ، 39 ] فإنه هو الذي بين به لهم أن المعصية بعد ذلك اليوم جزاؤها جهنم فأورد عليّ بعض الحذاق من طلبة الدرس أنه إذا لم يكن العالم عالم تكليف فكيف كفر إبليس باعتراضه وامتناعه من السجود؟ فأجبته بأن دلالة ألوهية الله تعالى في ذلك العالم حاصلة بالمشاهدة حصولاً أقوى من كل دلالة زيادة على دلالة العقل لأن إبليس شاهد بالحس الدلائل على تفرده تعالى بالألوهية والخلق والتصرف المطلق وبعلمه وحكمته واتصافه بصفات الكمال كما حصل العلم بمثله للملائكة فكان اعتراضه على فعله والتغليط إنكاراً لمقتضى تلك الصفات فكان مخالفة لدلائل الإيمان فكفر به . وأما الأمر والنهي والطاعة والمعصية وجزاء ذلك فلا يتلقى إلا بالإخبارات الشرعية وهي لم تحصل يومئذ وإنما حصلت بقوله تعالى لهم : { فمن تبع هداي } الآية فظهر الفرق .
وقرأ الجمهور { آدم } بالرفع و { كلمات } بالنصب ، وقرأه ابن كثير بنصب ( آدم ) ورفع ( كلمات ) على تأويل ( تلقى ) بمعنى بلغته كلمات فيكون التلقي مجازاً عن البلوغ بعلاقة السببية .
وقوله : { إنه هو التواب الرحيم } تذييل وتعليل للجملة السابقة وهي { فتاب عليه } لأنه يفيد مفادها مع زيادة التعميم والتذييل من الإطناب كما تقرر في علم المعاني . ومعنى المبالغة في التواب أنه الكثير القبول للتوبة أي لكثرة التائبين فهو مثال مبالغة من تاب المتعدي بعلى الذي هو بمعنى قبول التوبة إيذان بأن ذلك لا يخص تائباً دون آخر وهو تذييل لقوله : { فتلقى آدم من ربه } المؤذن بتقدير تاب آدم فتاب الله عليه على جعل التواب بمعنى الملهم لعباده الكثيرين أن يتوبوا فإن أمثلة المبالغة قد تجيء من غير التكاثر فالتواب هنا معناه الملهم التوبة وهو كناية عن قبول توبة التائب .
وتعقيبه بالرحيم لأن الرحيم جار مجرى العلة للتواب إذ قبوله التوبة عن عباده ضرب من الرحمة بهم وإلا لكانت التوبة لا تقتضي إلا نفع التائب نفسه بعدم العود للذنب حتى تترتب عليه الآثام ، وأما الإثم المترتب فكان من العدل أن يتحقق عقابه لكن الرحمة سبقت العدل هنا بوعد من الله .