تفسير ابن عاشور

تفسير الآية رقم 52 من سورة الأنبياء

إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) وقوله { من قبل } أي من قبل أن نوتي موسى وهارون الفرقان وضياء وذكراً . ووجه ذكر هذه القبلية التنبيه على أنه ما وقع إيتاء الذكر موسى وهارون إلا لأن شريعتهما لم تزل معروفة مدروسة .
و { إذ قال } ظرف لفِعل { آتينَا } أي كان إيتاؤه الرشد حينَ قال لأبيه وقومه : { ما هذه التماثيل } الخ ، فذلك هو الرشد الذي أوتيه ، أي حينَ نزول الوحي إليه بالدَعوة إلى توحيد الله تعالى ، فذلك أول ما بُدىء به من الوحي .
وقوم إبراهيم كانوا من ( الكَلدان ) وكان يسكن بلداً يقال له ( كوثى ) بمثلثة في آخره بعدها ألف . وهي المسماة في التوراة ( أور الكلدان ) ، ويقال : أيضاً إنها ( أورفة ) في ( الرها ) ، ثم سكن هو وأبوه وأهله ( حاران ) وحاران هي ( حرّان ) ، وكانت بعد من بلاد الكلدان كما هو مقتضى الإصحاح 12 من التكوين لقوله فيه : «اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك» . ومات أبوه في ( حاران ) كما في الإصحاح 11 من التكوين فيتعين أن دعوة إبراهيم كانت من ( حاران ) لأنه من حاران خرج إلى أرض كنعان . وقد اشتهر حرّان بأنه بلد الصابئة وفيه هيكل عظيم للصابئة ، وكان قوم إبراهيم صابئة يعبدون الكواكب ويجعلون لها صوراً مجسمة .
والاستفهام في قوله تعالى : { ما هذه التماثيل } يتسلط على الوصف في قوله تعالى : { التي أنتم لها عاكفون } فكأنه قال : ما عبادتكم هذه التماثيل؟ . ولكنه صيغ بأسلوب توجه الاستفهام إلى ذات التماثيل لإبهام السؤال عن كنه التماثيل في بادىء الكلام إيماء إلى عدم الملاءمة بين حقيقتها المعبر عنها بالتماثيل وبين وصفها بالمعبودية المعبر عنه بعكوفهم عليها . وهذا من تجاهل العارف استعمله تمهيداً لتخطئتهم بعد أن يسمع جوابهم فهم يظنونه سائلاً مستعلماً ولذلك أجابوا سؤاله بقولهم { وجدنا آباءنا لها عابدين } ؛ فإن شأن السؤال بكلمة ( مَا ) أنّه لطلب شرح ماهية المسؤول عنه . والإشارة إلى التماثيل لزيادة كشف معناها الدال على انحطاطها عن رتبة الألوهية . والتعبير عنها بالتماثيل يسلب عنها الاستقلال الذاتي .
والأصنام التي كان يعبدها الكلدان قوم إبراهيم هي ( بَعْل ) وهو أعظمها ، وكان مصوغاً من ذهب وهو رمز الشمس في عهد سميرميس ، وعبدوا رموزاً للكواكب ولا شك أنهم كانوا يعبدون أصنام قوم نوح : ودّاً ، وسُواعاً ، ويغوثَ ، ويعوقَ ، ونسْراً ، إما بتلك الأسماء وإما بأسماء أخرى . وقد دلت الآثار على أن من أصنام أشور ( إخوان الكلدان ) صنماً اسمه ( نَسْروخ ) وهو نَسْر لا محالة .