تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 38 من سورة الحج
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)
استئناف بياني جواباً لسؤال يخطر في نفوس المؤمنين ينشأ من قوله تعالى : { إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله } الآية ، فإنه توعّد المشركين على صدّهم عن سبيل الله والمسجد الحرام بالعذاب الأليم ، وبشّر المؤمنين المخبِتين والمحسنين بما يتبادر منه ضد وعيد المشركين وذلك ثواب الآخرة . وطال الكلام في ذلك بما تبعه لا جرم تشوفت نفوس المؤمنين إلى معرفة عاقبة أمرهم في الدنيا ، وهل يُنتصر لهم من أعدائهم أو يدّخر لهم الخير كله إلى الدار الآخرة . فكان المقام خليقاً بأن يُطَمئنَ الله نفوسهم بأنه كما أعد لهم نعيم الآخرة هو أيضاً مدافع عنهم في الدنيا وناصرهم ، وحُذف مفعول { يدافع } لدلالة المقام .
فالكلام موجه إلى المؤمنين ، ولذلك فافتتاحه بحرف التوكيد إما لمجرد تحقيق الخبر ، وإما لتنزيل غير المتردد منزلة المتردّد لشدة انتظارهم النصر واستبطائهم إياه .
والتعبير بالموصول لما فيه من الإيماء إلى وجه بناء الخبر وأن دفاع الله عنهم لأجل إيمانهم .
وقرأ الجمهور لفظ { يدافع } بألف بعد الدال فيفيد قوّة الدفع . وقرأه أبو عمرو ، وابن كثير ، ويعقوب { يدفع } بدون ألف بعد الدال .
وجملة { إن الله لا يحب كل خوان كفور } تعليل لتقييد الدفاع بكونه عن الذين آمنوا ، بأن الله لا يحب الكافرين الخائنين ، فلذلك يَدفع عن المؤمنين لردّ أذَى الكافرين : ففي هذا إيذان بمفعول { يدافع } المحذوف ، أي يدافع الكافرين الخائنين .
والخوّان : الشديد الخَوْن ، والخون كالخيانة ، الغدْر بالأمانة ، والمراد بالخوّان الكافر ، لأن الكفر خيانة لعهد الله الذي أخذه على المخلوقات بأن يوحدوه فجعله في الفطرة وأبلغه الناسَ على ألسنة الرسل فنبه بذلك ما أودعهم في فطرتهم .
والكفُور : الشديد الكفر : وأفادت ( كلّ ) في سياق النفي عمومَ نفي مَحبة الله عن جميع الكافرين إذ لا يحتمل المقام غير ذلك . ولا يتوهم من قوله { لا يحب كل خوان } أنه يحب بعض الخوانين لأن كلمة ( كلّ ) اسم جامد لا يشعر بصفة فلا يتوهم توجه النفي إلى معنى الكلية المستفاد من كلمة { كل } وليس هو مثل قوله تعالى : { وما ربك بظلام للعبيد } [ فصلت : 46 ] الموهم أن نفي قوّة الظلم لا يقتضي نفي قليل الظلم .