تفسير ابن عاشور

تفسير الآية رقم 36 من سورة المؤمنون

هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) وجملة { هيهات } بيان لجملة { يَعِدُكم } فلذلك فُصلت ولم تعطف .
و { هيهات } كلمة مبنية على فتح الآخر وعلى كسره أيضاً . وقرأها الجمهور بالفتح . وقرأها أبو جعفر بالكسر . وتدل على البعد . وأكثر ما تستعمل مكررة مرتين كما في هذه الآية أو ثلاثاً كما جاء في شعر لحُميد الأرقط وجرير يأتيان .
واختلف فيها أهي فعل أم اسم؛ فجمهور النحاة ذهبوا إلى أن ( هيهات ) اسم فعل للماضي من البُعد ، فمعنى هيهات كذا : بعُد . فيكون ما يلي ( هيهات ) فاعلاً . وقيل هي اسم للبُعد ، أي فهي مصدر جامد وهو الذي اختاره الزجاج في «تفسيره» .
قال الراغب : وقال البعض : غلط الزجاج في «تفسيره» واستهواه اللام في قوله تعالى : { هيهات هيهات لما توعدون } .
وقيل : هيهات ظرف غير متصرف ، وهو قول المبرد . ونسبه في «لسان العرب» إلى أبي علي الفارسي . قال : قال ابن جني : كان أبو علي يقول في هيهات : أنا أفتي مرة بكونها اسماً سمي به الفعل مثل صَهْ ومَهْ ، وأُفتي مرة بكونها ظرفاً على قدر ما يحضرني في الحال .
وفيها لغات كثيرة وأفصحها أنها بهاءين وتاء مفتوحة فتحة بناء ، وأن تاءها تثبت في الوقف وقيل يوقف عليها هاء ، وأنها لا تنون تنوين تنكير .
وقد ورد ما بعد ( هيهات ) مجروراً باللام كما في هذه الآية . وورد مرفوعاً كما في قول جرير
: ... فهيهاتَ هيهاتَ العقيقُ وأهلُهُ
وهيهاتَ خِلّ بالعقيق نحاوله ... وورد مجروراً ب ( مِن ) في قول حميد الأرقط
: ... هيهاتتِ من مُصبَحها هيهاتِ
ههياتتِ حِجْرٌ من صُنَيْبِعَاتِ ... فالذي يتضح في استعمال ( هيهات ) أن الأصل فيما بعدها أن يكون مرفوعاً على تأويل ( هيهات ) بمعنى فعل ماض من البُعد كما في بيت جرير ، وأن الأفصح أن يكون ما بعدها مجروراً باللام فيكون على الاستغناء عن فاعل اسم الفعل للعلم به مما يسبق ( هيهات ) من الكلام لأنها لا تقع غالباً إلا بعد كلام ، وتجعل اللام للتبيين ، أي إيضاح المراد من الفاعل ، فيحصل بذلك إجمال ثم تفصيل يفيد تقوية الخبر . وهذه اللام ترجع إلى لام التعليل . وإذا ورد ما بعدها مجروراً ب ( مِن ) ف ( مِن ) بمعنى ( عن ) أي بَعُد عنه أو بُعداً عنه .
على أنه يجوز أن تؤوّل ( هيهات ) مرة بالفعل وهو الغالب ومرة بالمصدر فتكون اسم مصدر مبنياً جامداً غير مشتق . ويكون الإخبار بها كالإخبار بالمصدر ، وهو الوجه الذي سلكه الزجاج في تفسير هذه الآية ويشير كلام الزمخشري إلى اختياره .
وجاء هنا فعل { توعدون } من ( أوعد ) وجاء قبله فعل { أيَعِدكم } وهو من ( وَعَدَ ) مع أن الموعود به شيء واحد . قال الشيخ ابن عرفة : لأن الأول : راجع إليهم في حال وجودهم فجعل وعداً ، والثاني راجع إلى حالتهم بعد الموت والانعدام فناسب التعبير عنه بالوعيد اه .
وأقول : أحسن من هذا أنه عبَّر مرة بالوعد ومرة بالوعيد على وجه الاحتباك ، فإن إعلامهم بالبعث مشتمل على وعد بالخير إن صدّقوا وعلى وعيد إن كذّبوا ، فذكر الفعلان على التوزيع إيجازاً .