تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 49 من سورة النمل
قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)
عطف جزء القصة على جزء منها . و { المدينة } : هي حِجْر ثمود بكسر الحاء وسكون الجيم المعروف مكانُها اليوم بديار ثمود ومدائن صالح ، وهي بقايا تلك المدينة من أطلال وبيوت منحوتة في الجبال . وهي بين المدينة المنورة وتبوك في طريق الشام وقد مرّ بها النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في مسيرهم في غزوة تبوك ورأوا فيها آباراً نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب والوضوء منها إلا بئراً واحدة أمرهم بالشرب والوضوء بها وقال : " إنها البئر التي كانت تشرب منها ناقة صالح "
والرهط : العدد من الناس حوالي العشرة وهو مِثل النَفر . وإضافة تسعة إليه من إضافة الجزء إلى اسم الكل على التوسع وهو إضافة كثيرة في الكلام العربي مثل : خمس ذود . واختلف أيمة النحو في القياس عليها ، ومذهب سيبويه والأخفش أنها سماعية .
وكان هؤلاء الرهط من عتاة القوم ، واختلف في أسمائهم على روايات هي من أوضاع القصّاصين ولم يثبت في ذلك ما يعتمد . واشتهر أن الذي عقر الناقة اسمه «قُدَار» بضم القاف وتخفيف الدال ، وقد تشاءم بعض الناس بعدد التسعة بسبب قصة ثمود وهو من التشاؤم المنهي عنه .
و { الأرض } : أرض ثمود فالتعريف للعهد .
وعطف { لا يصلحون } على { يفسدون } احتراس للدلالة على أنهم تمحّضوا للإفساد ولم يكونوا ممن خلطوا إفساداً بإصلاح .
وجملة : { قالوا } صفة ل { تسعة } ، أو خبر ثان ل { كان } ، أو هو الخبر ل { كان } . وفي { المدينة } متعلق ب { كان } ظرفاً لغواً ولا يحسن جعل الجملة استئنافاً لأنها المقصود من القصة والمعنى : قَال بعضهم لبعض .
و { تقاسموا } فعل أمر ، أي قال بعضهم : تقاسموا ، أي ابتدأ بعضهم فقال : تقاسموا . وهو يريد شمول نفسه إذ لا يأمرهم بذلك إلا وهو يريد المشاركة معهم في المقسم عليه كما دل عليه قوله : { لنبيتنه } . فلما قال ذلك بعضهم توافقوا عليه وأعادوه فصار جميعهم قائلاً ذلك فلذلك أسند القول إلى التسعة .
والقَسَم بالله يدل على أنهم كانوا يعترفون بالله ولكنهم يشركون به الآلهة كما تقدم في قصصهم فيما مرّ من السور .
و { لنُبَيّتَنّهُ } جواب القسم ، والضمير عائد إلى صالح . والتبييت والبيات : مباغتة العدوّ ليلاً . وعكسه التصبيح : الغارة في الصباح ، وكان شأن الغارات عند العرب أن تكون في الصباح ، ولذلك يقول مَن ينذر قوماً بحلول العدوّ : «يَا صبَاحَاهُ» ، فالتبييت لا يكون إلا لقصد غدْر . والمعنى : أنهم يغيرون على بيته ليلاً فيقتلونه وأهلَه غدْراً من حيث لا يُعرف قاتله ثم ينكرون أن يكونوا هم قتلوهم ولا شهدوا مقتلهم .
والمُهلك : مصدر ميمي من أهلك الرباعي ، أي شهدنا إهلاك من أهلكهم . وقولهم : { وإنا لصادقون } هو من جملة ما هيَّأوا أن يقولوه فهو عطف على { ما شهدنا مهلك } أي ونؤكد إنّا لصادقون .
ولم يذكروا أنهم يحلفون على أنهم صادقون .
وقرأ الجمهور : { لنُبيّتنَّه } بنون الجماعة وفتح التاء التي قبل نون التوكيد . وقرأه حمزة والكسائي وخلف بتاء الخطاب في أوله وبضم التاء الأصلية قبل نون التوكيد . وذلك على تقدير : أمر بعضهم لبعض . وهكذا قرأ الجمهور { لنقولَنَّ } بنون الجماعة في أوله وفتح اللام . وقرأه حمزة والكسائي وخلف بتاء الخطاب وبضم اللام .
وقرأ الجمهور : { مُهْلَك } بضم الميم وفتح اللام وهو مصدر الإهلاك أو مكانُه أو زمانه . وقرأه حفص بفتح الميم وكسر اللام ويحتمل المصدر والمكان والزمان . وقرأ أبو بكر عن عاصم بفتح الميم وفتح اللام فهو مصدر لا غير .
ووليُّ صالح هم أقرب القوم له إذا راموا الأخذ بثأره .
وهذا الجزء من قصة ثمود لم يذكر في غير هذه السورة . وأحسب أن سبب ذكره أن نزول هذه السورة كان في وقتتٍ تآمرَ فيه المشركون على الإيقاع بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو التآمر الذي حكاه الله في قوله : { وإذ يمكُرُ بك الذين كفروا ليُثْبِتُوك أو يَقْتُلُوك أو يُخْرِجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } [ الأنفال : 30 ] ؛ فضرب الله لهم مثلاً بتآمر الرهط من قوم صالح عليه ومكرِهم وكيف كان عاقبة مكرهم ، ولذلك ترى بين الآيتين تشابهاً وترى تكرير ذكر مكرهم ومكر الله بهم ، وذكر أن في قصتهم آية لقوم يعلمون .