تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 12 من سورة آل عمران
استئناف ابتدائي ، للإنتقال من النذارة إلى التهديد ، ومن ضَرب المثل لهم بأحوال سلفهم في الكفر ، إلى ضرب المثل لهم بسابق أحوالهم المؤذنة بأنّ أمرهم صائر إلى زوال ، وأنّ أمر الإسلام ستندكّ له صمّ الجبال . وجيء في هذا التهديد بأطنب عبارة وأبلغها؛ لأنّ المقام مقام إطناب لمزيد الموعظة ، والتذكير بوصف يوم كانَ عليهم ، يعلمونه . { والذين كفروا } [ البقرة : 39 ] يحتمل أنّ المراد بهم المذكورون في قوله : { إنّ الذين كفروا لن تغني عنهم } [ آل عمران : 116 ] فيجيء فيه ما تقدّم والعدول عن ضمير ( هم ) إلى الاسم الظاهر لاستقلال هذه النذارة .
والظاهر أنّ المراد بهم المشركون خاصّة ، ولذلك أعيد الاسم الظاهر ، ولم يؤت بالضمير بقرينة قوله بعدَه : { قد كان لكم آية } إلى قوله { يرونهم مثليهم رأى العين } وذلك ممّا شاهده المشركون يوم بدر .
وقد قيل : أريد بالذين كفروا خصوص اليهود ، وذكروا لذلك سبباً رواه الواحدي ، في أسباب النزول : أنّ يهود يَثرب كانوا عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مدّة فلمّا أصاب المسلمين يوم أحد ما أصابهم من النكبة . نقضوا العهد وانطلق كعب بن الأشْرَف في ستين راكباً إلى أبي سفيان بمكة وقالوا لهم : لتكونَنّ كلمتنا واحدة ، فلمّا رجعوا إلى المدينة أنزلت هذه الآية .
وروى محمد بن إسحاق : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما غَلَب قريشاً ببدر ، ورجع إلى المدينة ، جمع اليهودَ وقال لهم : " يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش وأسلموا فقد عرفتم ، أنّي نبيء مرسل " فقالوا : «يا محمد لا يغرنّك أنّك لقيتَ قوماً أغمارَا لا معرفة لهم بالحرب فأصبْتَ فيهم فرصة أمَا والله لو قاتلناك لعرفتَ أنّا نحن الناس» فأنزل الله هذه الآية . وعلى هاتين الروايتين فالغلب الذي أنذروا به هو فتح قريظة والنضِير وخَيبر ، وأيضاً فالتهديد والوعيد شامل للفريقين في جميع الأحوال .
وعطف { بئس المهاد } على { ستغلبون } عطف الإنشاء على الخبر .
وقرأ الجمهور { ستُغلبون وتُحشرون } كلتيهما بتاء الخطاب وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلَف : بياء الغيبة ، وهما وجهان فيما يحكَى بالقول لمخاطب ، والخطابُ أكثر : كقوله تعالى : { ما قلتُ لهم إلاّ ما أمرتني به أن اعبُدوا الله ربّي وربّكم } [ المائدة : 117 ] ولم يقل ربَّك وربَّهم .