تفسير ابن عاشور

تفسير الآية رقم 133 من سورة آل عمران

قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر { سارعوا } دون واو عطف .
تتنزّل جملة { سارعوا . . } منزلة البيان ، أو بدل الاشتمال ، لِجملة { وأطيعوا الله والرسول } لأنّ طاعة الله والرّسول مسارعة إلى المغفرة والجنَّة فلذلك فُصلت . ولكون الأمر بالمسارعة إلى المغفرة والجنّة يؤول إلى الأمر بالأعمال الصّالحة جاز عطف الجملة على الجملة الأمر بالطّاعة ، فلذلك قرأ بقية العشرة { وسارعوا } . بالعطف وفي هذه الآية ما ينبئنا بأنَّه يجوز الفصل والوصل في بعض الجمل باعتبارين .
والسرعة المشتقّ منها سارعوا مجاز في الحرص والمنافسة والفور إلى عمل الطاعات التي هي سبب المغفرة والجنة ، ويَجوز أن تكون السرعة حقيقة ، وهي سرعة الخروج إلى الجهاد عند النفير كقوله في الحديث : « وإذا استُنْفِرْتُمْ فانفِرُوا » .
والمسارعة ، على التقادير كلّها تتعلّق بأسباب المغفرة وأسباب دخول الجنة ، فتعليقها بذات المغفرة والجنة من تعليق الأحكام بالذوات على إرادة أحوالها عند ظهور عدم الفائدة في التعلّق بالذات .
وجيء بصيغة المفاعلة ، مجرّدة عن معنى حصول الفعل من جانبين ، قصد المبالغة في طلب الإسراع ، والعرب تأتي بما يدلّ في الوضع على تكرّر الفعل وهم يريدون التأكيد والمبالغة دون التكرير ، ونظيره التثنية في قولهم : لبيك وسعديك ، وقوله تعالى : { ثم ارجع البصر كرتين } [ الملك : 4 ] .
وتنكير ( مغفرة ] ووصلها بقوله : { من ربكم } مع تأتّي الإضافة بأن يقال إلى مغفرة ربّكم ، لقصد الدّلالة على التَّعظيم ، ووصف الجنة بأنّ عرضها السماوات والارض على طريقة التشبيه البليغ ، بدليل التَّصريح بحرف التَّشبيه في نظيرتها في آية سورة الحديد . والعَرض في كلام العرب يطلق على ما يقابل الطول ، وليس هو المراد هنا ، ويطلق على الاتِّساع لأنّ الشيء العريض هو الواسع في العرف بخلاف الطويل غير العريض فهو ضيق ، وهذا كقول العُديل
: ... ودونَ يدِ الحَجَّاج منْ أنْ تنالني
بساط بأيدِي الناعِجاتتِ عرِيضُ ... وذِكر السماوات والأرض جار على طريقة العرب في تمثيل شدّة الاتّساع . وليس المراد حقيقة عرض السماوات والارض ليوافق قول الجمهور من علمائنا بأن الجنَّة مخلوقة الآن ، وأنَّها في السماء ، وقيل : هو عرضها حقيقة ، وهي مخلوقة الآن لكنّها أكبر من السماوات وهي فوق السماوات تحت العرش ، وقد رُوي : العرش سقف الجنة . وأما من قال : إن الجنّة لم تخلق الآن وستخلق يوم القيامة ، وهو قول المعتزلة وبعض أهل السنّة منهم مُنذر بن سعيد البَلُّوطي الأندلسي الظاهري ، فيجوز عندهم أن تكون كعرض السماوات والأرض بأن تخلق في سعة الفضاء الَّذي كان يملؤه السماوات والأرض أو في سعة فضاء أعظم من ذلك . وأدلّة الكتاب والسنّة ظاهرة في أنّ الجنَّة مخلوقة ، وفي حديث رؤيا رآها النَّبيء صلى الله عليه وسلم وهو الحديث الطويل الذي فيه قوله : « إنّ جبريل وميكاييل قالا له : ارفع رأسك ، فرفع فإذا فوقه مثل السحاب ، قالا : هذا منزلك ، قال : فقلت : دَعاني أدخُل منزلي ، قالا : إنَّه بقي لك عُمُر لم تستكمله فلو استكملت أتيت منزلك » .
أعقب وصف الجنَّة بذكر أهلها لأنّ ذلك ممَّا يزيد التَّنويه به ، ولم يزل العقلاء يتخيّرون حسن الجوار كما قال أبو تمام
: ... مَنْ مُبْلِغُ أفْنَاءَ يعرُب كلّها
أني بَنيت الجارَ قبل المنزلِ ... وجملةُ { أعدّت للمتّقين } استئناف بياني لأنّ ذكر الجنَّة عقب ذكر النَّار الموصوفة بأنَّها أعدّت للكافرين يثير في نفوس السامعين أن يتعرّفوا مَن الذين أعدّت لهم : فإن أريد بالمتَّقين أكمل ما يتحقّق فيه التَّقوى ، فإعدادها لهم لأنَّهم أهلها فضلاً من الله تعالى الّذين لا يلجون النار أصلاً عدلاً من الله تعالى فيكون مقابلَ قوله : { واتقوا النار التي أُعدت للكافرين } [ آل عمران : 131 ] ، ويكون عصاة المؤمنين غير التَّائبين قد أخذوا بحظّ من الدارين ، لمشابهة حالهم حالَ الفريقين عدلاً من الله وفضلاً ، وبمقدار الاقتراب من أحدهما يكون الأخذ بنصيب منه ، وأريد المتّقون في الجملة فالإعداد لهم باعتبار أنَّهم مقدّرون من أهلها في العاقبة .