تفسير ابن عاشور

تفسير الآية رقم 195 من سورة آل عمران

دلّت الفاء على سرعة الإجابة بحصول المطلوب ، ودلّت على أنّ مناجاة العبد ربّه بقلبه ضرب من ضروب الدعاء قابل للإجابة .
و ( استجاب ) بمعنى أجاب عند جمهور أيمّة اللغة ، فالسين والتاء للتأكيد ، مثل : استوقد واستخلص . وعن الفرّاء ، وعليّ بن عيسى الربعي : أنّ استجاب أخصّ من أجاب لأنّ استجاب يقال لمن قَبِل ما دُعِي إليه ، وأجاب أعمّ ، فيقال لمن أجاب بالقبول وبالردّ . وقال الراغب : الاستجابة هي التحرّي للجواب والتهيُّؤ له ، لكن عبّر به عن الإجابة لقلّة انفكاكها منها . ويقال : استجاب له واستجابه ، فعدّي في الآية باللام ، كما قالوا : حَمِدَ له وشكر له ، ويعدّي بنفسه أيضاً مثلهما . قال كعب بن سعد الغنوي ، يرثي قريباً له
: ... وداع دعا يا من يجيب إلى الندا
فلم يستجبه عند ذاك مجيب ... وتعبيرهم في دعائهم بوصف { ربنا } دون اسم الجلالة لما في وصف الربوبية من الدلالة على الشفقة بالمربوب ، ومحبّة الخير له ، ومن الاعتراف بأنّهم عبيده ولتتأتّى الإضافة المفيدة التشريف والقرب ، ولردّ حسن دعائهم بمثله بقولهم : «ربَّنا ، ربَّنا» .
ومعنى نفي إضاعة عملهم نفي إلغاء الجزاء عنه : جَعله كالضائع غير الحاصل في يد صاحبه .
فنفي إضاعة العمل وعد بالاعتداد بعملهم وحسبانه لهم ، فقد تضمّنت الاستجابة تحقيق عدم إضاعة العمل تطميناً لقلوبهم من وَجل عدم القبول ، وفي هذا دليل على أنّهم أرادوا من قولهم : { وآتنا ما وعدتنا على رسلك } [ آل عمران : 194 ] تحقيق قبول أعمالهم والاستعاذة من الحَبَط .
وقوله : { من ذكر أو أنثى } بيان لعَامِللٍ ووجه الحاجة إلى هذا البيان هنا أنّ الأعمال التي أتوا بها أكبرها الإيمان ، ثم الهجرة ، ثم الجهاد ، ولمّا كان الجهاد أكثر تكرّراً خيف أن يتوهّم أنّ النساء لا حظّ لهنّ في تحقيق الوعد الذي وعد الله على ألسنة رسله ، فدفع هذا بأنّ للنساء حظّهنّ في ذلك فهنّ في الإيمان والهجرة يساوين الرجال ، وهنّ لهنّ حظّهنّ في ثواب الجهاد لأنّهن يقمن على المرضى ويُداوين الكلْمى ، ويسقين الجَيش ، وذلك عمل عظيم به استبقاء نفوس المسلمين ، فهو لا يقصر عن القتال الذي به إتلاف نفوس عدوّ المؤمنين .
وقوله : { بعضكم من بعض } ( من ) فيه اتّصالية أي بعضُ المستجاب لهم مُتّصل ببعض ، وهي كلمة تقولها العرب بمعنى أنّ شأنهم واحد وأمرهم سواء . قال تعالى : { المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر } [ التوبة : 67 ] إلخ . . . وقولهم : هو منّي وأنا منه ، وفي عكسه يقولون كما قال النابغة
: ... فإنّي لستُ مِنْكَ ولستَ مِنِّي
وقد حملها جمهور المفسّرين على معنى أنّ نساءكم ورجالكم يجمعهم أصل واحد ، وعلى هذا فمَوقع هذه الجملة موقع التعليل للتعميم في قوله : { من ذكر أو أنثى } أي لأنّ شأنكم واحد ، وكلّ قائم بما لو لم يقم به لضاعت مصلحة الآخر ، فلا جرم أن كانوا سواء في تحقيق وعد الله إيّاهم ، وإن اختلفت أعمالهم وهذا كقوله تعالى :
{ للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن } [ النساء : 32 ] .
والأظهر عندي أن ليس هذا تعليلاً لمضمون قوله : { من ذكر أو أنثى } بل هو بيان للتساوي في الأخبار المتعلّقة بضمائر المخاطبين أي أنتم في عنايتي بأعمالكم سواء ، وهو قضاء لحقّ ما لهم من الأعمال الصالحة المتساوين فيها ، ليكون تمهيداً لبساط تمييز المهاجرين بفضل الهجرة الآتي في قوله : { فالذين هاجروا } ، الآيات .
وقوله : { فالذين هاجروا } تفريع عن قوله : { لا أضيع عمل عامل } وهو من ذكر الخاصّ بعد العامّ للاهتمام بذلك الخاصّ ، واشتمل على بيان ما تفاضلوا فيه من العمل ، وهو الهجرة التي فاز بها المهاجرون .
والمهاجَرة : هي ترك الموطن بقصد استيطان غيره ، والمفاعلة فيها للتقوية كأنّه هَجر قومه وهَجَروه لأنّهم لم يحرصوا على بقائه ، وهذا أصل المهاجرة أن تكون لمنافرة ونحوها ، وهي تصدق بهجرة الذين هاجروا إلى بلاد الحبشة وبهجرة الذين هاجروا إلى المدينة .
وعطف قوله : { وأخرجوا من ديارهم } على { هاجروا } لتحقيق معنى المفاعلة في هاجر أي هاجروا مهاجرة لزّهم إليها قومهم ، سواء كان الإخراج بصريح القول أم بالإلجاء ، من جهة سوء المعاملة ، ولقد هاجر المسلمون الهجرة الأولى إلى الحبشة لما لاقوه من سوء معاملة المشركين ، ثم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم هجرته إلى المدينة والتحق به المسلمون كلّهم ، لما لاقوه من أذى المشركين . ولا يوجد ما يدلّ على أنّ المشركين أخرجوا المسلمين ، وكيف واختفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عند خروجه إلى المدينة يدلّ على حرص المشركين على صدّه عن الخروج ، ويدلّ لذلك أيضاً قول كعب :
في فتيةٍ من قريششٍ قال قائلهم ... ببطْن مكّةَ لمَّا أَسلموا زُولوا
أي قال قائل من المسلمين اخرُجوا من مكّة ، وعليه فكلّ ما ورد ممّا فيه أنّهم أخرجوا من ديارهم بغير حقّ فتأويله أنه الإلجاء إلى الخروج ، ومنه قول ورقة ابن نوفل : «يا ليْتني أكون معكَ إذ يُخْرِجُك قومُك» ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له : " أوَ مُخْرِجيّ هُم؟ فقال : مَا جاء نَبيء بمثللِ ما جئْتَ به إلاّ عُودي " وقوله : { وأَوذوا في سبيلي } أي أصابهم الأذى وهو مكروه قليل من قول أو فعل . وفهم منه أنّ من أصابهم الضرّ أولى بالثواب وأوفى . وهذه حالة تصدق بالذين أوذوا قبل الهجرة وبعدها .
وقوله : { وقاتلوا وقتلوا } جُمع بينهما للإشارة إلى أنّ للقسمين ثواباً . وقرأ الجمهور : وقاتلوا وقُتلوا . وقَرَأ حَمزَة ، والكسائي ، وخلف : وقُتلوا وقاتلوا عكس قراءة الجمهور ومآل القراءتين واحد ، وهذه حالة تصدق على المهاجرين والأنصار من الذين جاهدوا فاستشهدوا أو بقوا . وقوله : { لأكفرن عنهم سيئاتهم } إلخ مؤكّد بلام القسم . وتكفير السيّئات تقدّم آنفاً .