تفسير ابن عاشور

تفسير الآية رقم 26 من سورة آل عمران

استئناف ابتدائي المقصود منه التعريض بأهل الكتاب بأنّ إعراضهم إنّما هو حسد على زوال النبوءة منهم ، وانقراض الملك منهم ، بتهديدهم وبإقامة الحجة عليهم في أنّه لا عجب أن تنتقل النبوءة من بني إسرائيل إلى العرب ، مع الإيماء إلى أنّ الشريعة الإسلامية شريعة مقارنة للسلطان والمُلك .
و { اللهم } في كلام العرب خاص بنداء الله تعالى في الدعاء ، ومعناه يا الله . ولما كثر حذف حرف النداء معه قال النحاة : إنّ الميم عوض من حرف النداء يريدون أنّ لحاق الميم باسم الله في هذه الكلمة لما لم يقع إلاّ عند إرادة الدعاء صار غنيّاً عن جلب حرف النداء اختصاراً ، وليس المراد أنّ الميم تفيد النداء . والظاهر أنّ الميم علامة تنوين في اللغة المنقول منها كلمة ( اللَّهم ) من عبرانية أو قحطانية وأنّ أصلها لاَ هُم مرداف إله .
ويدل على هذا أنّ العرب نطقوا به هكذا في غير النداء كقول الأعشى
: ... كدعوةٍ من أبي رباح
يَسْمَعُها اللهُم الكبير ... وأنّهم نطقوا به كذلك مع النداء كقوللِ أبي خراش الهذلي
: ... إنِّي إذا ما حَدَتٌ ألَمَّا
أقُول يا اللهُمّ يا اللهُمّا ... وأنّهم يقولون يا الله كثيراً . وقال جمهور النحاة : إنّ الميم عوض عن حرف النداء المحذوف وإنّه تعويض غير قياسي : وإنّ ما وقع على خلاف ذلك شذوذ . وزعم الفراء أنّ اللهم مختزل من اسم الجلالة وجملة أصلها «يا الله أمّ» أي أقبل علينا بخير ، وكل ذلك تكلّف لا دليل عليه .
والمالك هو المختصّ بالتصرّف في شيء بجميع ما يتصرّف في أمثاله مما يُقصد له من ذواتها ، ومنافعها ، وثمراتها ، بما يشاء فقد يكون ذلك بالانفراد ، وهو الأكثر ، وقد يكون بمشاركةٍ : واسعةٍ ، أو ضيّقة .
والمُلك بضم الميم وسكون اللام نوع من المِلك بكسر الميم فالملك بالكسر جنسٌ والمُلك بالضم نوعٌ منه وهو أعلى أنواعه ، ومعناه التصرّف في جماعة عظيمة ، أو أمة عديدة تصرُّف التدبير للشؤون ، وإقامةِ الحقوق ، ورعاية المصالح ، ودفع العدوان عنها ، وتوجيهها إلى ما فيه خيرها ، بالرغبة والرهبة . وانظر قوله تعالى : { قالوا أنّى يكون له المُلك علينا } في سورة البقرة ( 247 ) وقد تقدم شيء من هذا عند قوله تعالى : { مالك يوم الدين } [ الفاتحة : 4 ] ، فمعنى مالك الملك أنّه المتصرّف في نوع الملك ( بالضم ) بما يشاء ، بأن يراد بالمُلك هذا النوع . والتعريف في المُلك الأول لاستغراق الجنس : أي كل ملك هو في الدنيا . ولما كان المُلك ماهية من المواهي ، كان معنى كون الله مالك المُلك أنّه المالك لتصريف المُلك ، أي لإعطائه ، وتوزيعه ، وتوسيعه ، وتضييقه ، فهو على تقدير مضاف في المعنى .
والتعريف في المُلك الثاني والثالث للجنس ، دون استغراق أي طائفة وحصّة من جنس المُلْك ، والتعويل في الفرق بين مقدار الجنس على القرائن .
ولذلك بينت صفة مالك الملك بقوله : { تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء } [ آل عمران : 26 ] فإنّ إيتاءه ونزعه مقول عليه بالتشكيك : إيجاباً ، وسلباً ، وكثرة وقلّة .
والنزع : حقيقة إزالة الجِرم من مكانه : كنزع الثوب ، ونزع الماء من البئر ، ويستعار لإزالة الصفات والمعاني كما قال تعالى : { ونزعنا ما في صدورهم من غلّ } [ الأعراف : 43 ] بتشبيه المعنى المتمكّن بالذات المتّصلة بالمكان ، وتشبيه إزالته بالنزع ، ومنه قوله هنا : { تنزع الملك } أي تزيل وصف الملك ممّن تشاء .
وقوله : { بيدك الخير } تمثيل للتصرّف في الأمر؛ لأنّ المتصرّف يكون أقوى تصرّفه بوضع شيء بيده ، ولو كان لا يوضع في اليد ، قال عنترة بن الأخرس المَعْني الطائي
: ... فما بيديك خير أرتجيه
وغيرُ صدودَك الخطبُ الكبير ... وهذا يعدّ من المتشابه لأنّ فيه إضافة اليد إلى ضمير الجلالة ، ولا تشابه فيه : لظهور المراد من استعماله في الكلام العربي . والاقتصار على الخير في تصرّف الله تعالى اكتفاء كقوله تعالى : { سرابيل تقيكم الحر } [ النحل : 81 ] أي والبرد .
وكان الخير مقتضى بالذات أصالة والشرّ مقتضى بالعَرَض قال الجلال الدواني في شرح ديباجة هياكل النور :
«وخُص الخير هنا لأنّ المقام مقام ترجّي المسلمين الخيرمن الله ، وقد علم أنّ خيرهم شرّ لضدّهم كما قيل
: ... مصائب قوم عند يوم فوائدُ
أي «الخير مقتضَى الذات والشرّ مقتضي بالعرض وصادر بالتَبع لِمَا أنّ بعض ما يتضمن خيرات كثيرة هو مستلزم لشرّ قليل ، فلو تركت تلك الخيرات الكثيرة لذلك الشرّ القليل ، لصار تركها شرّاً كثيراً ، فلما صدر ذلك الخير لزمه حصول ذلك الشرّ» .