تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 55 من سورة آل عمران
استئناف؛ و ( إذ ) ظرف غير متعلق بشيء ، أو متعلق بمحذوف ، أي اذكُر إذ قال الله : كما تقدم في قوله : { وإذْ قال ربك للملائكة إنّي جاعل في الأرض } [ البقرة : 30 ] وهذا حكاية لأمرِ رفع المسيح وإخفائه عن أنظار أعدائه . وقدّم الله في خطابه إعلامه بذلك استئناساً له ، إذ لم يتم ما يرغبه من هداية قومه . مع العلم بأنه يحب لقاء الله ، وتبشيراً له بأنّ الله مظهر دينَه؛ لأنّ غاية هم الرسول هو الهدى ، وإبلاغ الشريعة ، فلذلك قال له : { وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا } والنداء فيه للاستئناس ، وفي الحديث أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يقبض نبيء حتى يُخَيَّر " .
وقوله : { إني متوفيك } ظاهر معناه : إنّي مميتك ، هذا هو معنى هذا الفعل في مواقع استعماله لأنّ أصل فعل توفَّى الشيءَ أنه قَبَضه تاماً واستوفاه . فيقال : توفاه اللَّهِ أي قدّر موته ، ويقال : توفاه ملك الموت أي أنفذ إرادة الله بموته ، ويطلق التوفّي على النوم مجازاً بعلاقة المشابهة في نحو قوله تعالى : { وهو الذي يَتَوَفَّاكم بالليل } [ الأنعام : 60 ] وقوله { الله يتوفَّى الأنفسَ حينَ موتها والتي لم تَمُتْ في منامها فيُمْسِك التي قضى عليها الموتَ ويرسل الأخرى إلى أجل مسمّى } [ الزمر : 42 ] . أي وأما التي لم تمت الموت المعروف فيميتها في منامها موتاً شبيهاً بالموت التام كقوله : { هو الذي يتوفاكم بالليل ثم قال حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا فالكل إماتة في التحقيق ، وإنما فَصَل بينهما العرف والاستعمال ، ولذلك فرّع بالبيان بقوله : فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمّى ، فالكلام منتظم غاية الانتظام ، وقد اشتبه نظمه على بعض الأفهام . وأصرح من هذه الآية آية المائدة : فلمَا توفيتَني كنت أنتَ الرقيب عليهم لأنه دل على أنه قد توفّى الوفاة المعروفة التي تحول بين المرء وبين علم ما يقع في الأرض ، وحملُها على النوم بالنسبة لِعيسى لا معنى له؛ لأنهُ إذا أراد رفعَه لم يلزم أن ينام؛ ولأنّ النوم حينئذ وسيلة للرفع فلا ينبغي الاهتمام بذكره وترك ذكر المقصد ، فالقول بأنها بمعنى الرفع عن هذا العالم إيجاد معنى جديد للوفاة في اللغة بدون حجة ، ولذلك قال ابن عباس ، ووهب بن منبه : إنها وفاة موت وهو ظاهر قول مالك في جامع العتبية قال مالك : مات عيسى وهو ابن إحدى وثلاثين سنة قال ابن رشد في البيان والتحصيل } : «يحتمل أنّ قوله : مات وهو ابن ثلاث وثلاثين على الحقيقة لا على المجاز» .
وقال الربيع : هي وفاة نوم رفعه الله في منامه ، وقال الحسن وجماعة : معناه إنّي قابضك من الأرض ، ومخلصك في السماء ، وقيل : متوفيك متقبل عملك .
والذي دعاهم إلى تأويل معنى الوفاة ما ورد في الأحاديث الصحيحة : أنّ عيسى ينزل في آخر مدّة الدنيا ، فأفهم أنّ له حياة خاصة أخصّ من حياة أرواح بقية الأنبياء ، التي هي حياة أخصّ من حياة بقية الأرواح؛ فإنّ حياة الأرواح متفاوتة كما دلّ عليه حديث " أرواح الشهداء في حواصل طيور خضْرٍ " ورووا أنّ تأويل المعنى في هذه الآية أولى من تأويل الحديث في معنى حياته وفي نزوله ، فمنهم من تأوّل معنى الوفاة فجعله حيا بحياته الأولى ، ومنهم من أبقى الوفاة على ظاهرها ، وجعل حياته بحياة ثانية ، فقال وهب بن منبه : توفاه الله ثلاثَ ساعات ورفعه فيها ، ثم أحياه عنده في السماء . وقال بعضهم : توفّي سبع ساعات . وسكت ابن عباس ومالكٌ عن تعيين كيفية ذلك ، ولقد وُفِّقا وسُدِّدا . ويجوز أن تكون حياته كحياة سائر الأنبياء ، وأن يكون نزوله إن حمل على ظاهره بعثاً له قبل إبان البعث على وجه الخصوصية ، وقد جاء التعبير عن نزوله بلفظ «يبعث الله عيسى فيقتل الدجال» رواه مسلم عن عبد الله بن عمر ، ولا يموت بعد ذلك بل يخلص من هنالك إلى الآخرة .
وقد قيل في تأويله : إنّ عطف { ورافعك إلي } على التقديم والتأخير؛ إذ الواو لا تفيد ترتيب الزمان أي إنّي رافعك إليّ ثم متوفيك بعد ذلك ، وليس في الكلام دلالة على أنه يموت في آخر الدهر سوى أنّ في حديث أبي هريرة في كتاب أبي داود : " ويمكث ( أي عيسى ) أربعين سنة ثم يُتوفى فيصلّي عليه المسلمون " والوجه أن يحمل قوله تعالى : { إني متوفيك } على حقيقته ، وهو الظاهر ، وأن تؤوّل الأخبار التي يفيد ظاهرها أنه حيّ على معنى حياة كرامة عند الله ، كحياة الشهداء وأقوى ، وأنه إذا حمل نزوله على ظاهره دون تأويل ، أنّ ذلك يقوم مقام البعض ، وأنّ قوله في حديث أبي هريرة ثم يتوفّى فيصلي عليه المسلمون مدرج من أبي هريرة لأنّه لم يروه غيره ممن رووا حديث نزول عيسى ، وهم جَمْع من الصحابة ، والروايات مختلفة وغير صريحة . ولم يتعرض القرآن في عدّ مزاياه إلى أنه ينزل في آخر الزمان .
والتطهير في قوله : { ومطهرك } مجازي بمعنى العصمة والتنزيه؛ لأنّ طهارة عيسى هي هي ، ولكن لو سُلط عليه أعداؤُه لكان ذلك إهانة له .
وحذف متعلق «كفروا» لظهوره أي الذين كفروا بك وهم اليهود ، لأنّ اليهود ما كفروا بالله بل كفروا برسالة عيسى ، ولأنّ عيسى لم يبعث لغيرهم فتطهيرُه لا يظنّ أنّه تطهيرٌ من المشركين بقرينة السياق .
والفوقية في قوله : { فوق الذين كفروا } بمعنى الظهور والانتصار ، وهي فوقية دنيوية بدليل قوله : { إلى يوم القيامة } .
والمراد بالذين اتبعوه : الحواريون ومن اتبعه بعد ذلك ، إلى أن نُسخت شريعته بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم
وجملة { ثم إليّ مرجعكم } عطف على جملة { وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا } إذ مضمون كلتا الجملتين من شأن جزاءِ اللَّهِ متّبِعي عيسى والكافرين به .
وثم للتراخي الرتبي؛ لأنّ الجزاء الحاصل عند مرجع الناس إلى الله يوم القيامة ، مع ما يقارنه من الحكم بين الفريقين فيما اختلفوا فيه ، أعظمُ درجةً وأهم من جعل متبعي عيسى فوق الذين كفروا في الدنيا .
والظاهر أنّ هذه الجملة مما خاطب الله به عيسى ، وأنّ ضمير مرجعكم ، وما معه من ضمائر المخاطبين ، عائد إلى عيسى والذين اتبعوه والذين كفروا به .
ويجوز أن يكون خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، فتكون ثم للانتقال من غرض إلى غرض ، زيادة على التراخي الرتبي والتراخي الزمني .
والمَرْجععِ مصدر ميمي معناه الرجوع . وحقيقة الرجوع غير مستقيمة هنا فتعيّن أنّه رجوع مجازي ، فيجوز أن يكون المرادُ به البعثَ للحساب بعد الموت ، وإطلاقه على هذا المعنى كثير في القرآن بلفظه وبمرادفه نحو المصير ، ويجوز أن يكون مراداً به انتهاء إمهال الله إياهم في أجللٍ أراده فينفذ فيهم مراده في الدنيا .
ويجوز الجمع بين المعنيين باستعمال اللفظ في مجازيه ، وهو المناسب لجمع العذابين في قوله : { فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة } وعلى الوجهين يجري تفسير حكم الله بينهم فيما هم فيه يختلفون .