تفسير ابن عاشور

تفسير الآية رقم 94 من سورة آل عمران

وقوله : { فمن أفترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون } نهاية لتسجيل كذبهم أي من استمرّ على الكذب على الله ، أي فمن افترى منكم بعد أن جعلنا التَّوراة فيصلاً بيننا ، إذ لم يبق لهم ما يستطيعون أن يدّعُوه شُبهة لهم في الاختلاق ، وجُعل الافتراء على الله لتعلّقه بدين الله . والفاء للتفريع على الأمْر .
والافتراء : الكذب ، وهو مرادف الاختلاق . والافتراء مأخوذ من الفَرْي ، وهو قطع الجلد قِطعاً ليُصلح به مثل أن يحْذى النعل ويصنع النطع أو القِربة . وافترى افتعال من فرى لعلّهُ لإفادة المبالغة في الفَرْي ، يقال : افترى الجلد كأنَّه اشتدّ في تقطيعه أو قطعَه تقطيع إفساد ، وهو أكثر إطلاق افترى . فأطلقوا على الإخبار عن شيء بأنّه وقَعَ ولَم يقع اسم الافتراء بمعنى الكذب ، كأنّ أصله كناية عن الكذب وتلميح ، وشاع ذلك حتَّى صار مرادفاً للكذب ، ونظيره إطلاق اسم الاختلاق على الكذب ، فالافتراء مرادف للكذب ، وإردَافه بقوله هنا : «الكذب» تأكيد للافتراء ، وتكرّرت نظائر هذا الإرداف في آيات كثيرة .
فانتصب «الكذب» على المفعول المطلق الموكِّد لفعله . واللام في الكذب لتعريف الجنس فهو كقوله : { أفْتَرَى على اللَّه كَذِباً أمْ به جِنّة } [ سبأ : 8 ]
والكذب : الخبر المخالف لما هو حاصل في نفس الأمر من غير نظر إلى كون الخَبر موافقاً لاعتقاد المُخبر أو هو على خلاف ما يعتقده ، ولكنّه إذا اجتمع في الخبر المخالفة للواقع والمخالفة لاعتقاد المخبِر كان ذلك مذموماً ومسبَّة؛ وإن كان معتقداً وقوعه لشبهة أو سوء تأمّل فهو مذموم ولكنّه لا يُحقَّر المخبر به ، والأكثر في كلام العرب أن يعنى بالكذب ما هو مذموم .
ثُمّ أعلنَ أن المتعيّن في جانبه الصّدق هو خبَر الله تعالى للجزم بأنهم لا يأتون بالتوراة ، وهذا كقوله : { ولن يتمنّوه أبداً } [ البقرة : 95 ]