تفسير ابن عاشور

تفسير الآية رقم 11 من سورة الروم

اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11)
استئناف ابتدائي ، وهو شروع فيما أُقيمت عليه هذه السورة من بسط دلائل انفراد الله تعالى بالتصرف في الناس بإيجادهم وإعدامهم وبإمدادهم وأطوار حياتهم ، لإبطال أن يكون لشركائهم شيء من التصرف في ذلك . فهي دلائل ساطعة على ثبوت الوحدانية التي عمُوا عنها .
وإذا كان نزول أول السورة على سبب ابتهاج المشركين لتغلب الفرس على الروم فقطع الله تطاولهم على المسلمين بأن أخبر أن عاقبة النصر للروم على الفرس نصراً باقياً ، وكان مثار التنازع بين المشركين والمؤمنين ميل كل فريق إلى مقاربه في الدين جُعل ذلك الحدثُ مناسبة لإفاضة الاستدلال في هذه السورة على إبطال دين الشرك .
وقد فُصِّلت هذه الدلائل على أربعة استئنافات متماثلة الأسلوب ، ابتُدىء كل واحد منها باسم الجلالة مُجْرى عليه أخبار عن حقائق لا قِبَل لهم بدحضها لأنهم لا يسعهم إلا الإقرار ببعضها أو العجز عن نقض دليلها .
فالاستئناف الأول المبدوء بقوله { الله يبدأ الخلق ثم يعيده } ، والثاني المبدوء بقوله { الله الذي خلقكم ثم رزقكم } [ الروم : 40 ] ، والثالث المبدوء بقوله { الله الذي يرسل الرياح } [ الروم : 48 ] ، والرابع المبدوء بقوله : { الله الذي خلقكم من ضعف } [ الروم : 54 ] .
فأما قوله : { الله يبدأ الخلق ثم يعيده } فاستدلال بما لا يسعهم إلا الاعتراف به وهو بدء الخلق إذ لا ينازعون في أن الله وحدَه هو خالق الخلق ولذلك قال الله تعالى { أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم } [ الرعد : 16 ] الآية . وأما قوله { ثم يعيده } فهو إدماج لأنه إذا سُلم له بدء الخلق كان تسليم إعادته أولى وأجدر . وحسن موقع الاستئناف وروده بعد ذكر أمم غابرة وأمم حاضرة خلف بعضها بعضاً ، وإذ كان ذلك مِثالاً لإعادة الأشخاص بعد فنائها وذُكر عاقبة مصير المكذبين للرسل في العاجلة ، ناسب في مقام الاعتبار أن يقام لهم الاستدلال على إمكان البعث ليقع ذكر ما يعقبه من الجزاء موقع الإقناع لهم .
وتقديم اسم الجلالة على المسند الفعلي لمجرد التقوّي . و { ثم } هنا للتراخي الرتبي كما هو شأنها في عطف الجمل ، وذلك أن شأن الإرجاع إلى الله أعظم من إعادة الخلق إذ هو المقصد من الإعادة ومن بدءْ الخلق . فالخطاب في { ترجعون } للمشركين على طريقة الالتفات من الغيبة إلى الخطاب .
وقرأ الجمهور { ترجعون } بتاء الخطاب . وقرأه أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم وروح عن يعقوب بياء الغيبة على طريقة ما قبله .